التشكيل المضاعف للتاريخ في الرواية الجديدة

ثقافة 2022/04/23
...

 قيس عمر
 
لقد أفادت الرواية الجديدة من التحولات الفنية والتداخل الأجناسي بشكل كبير مما منحها وهجا جديدا جعلها تعيد بناء مواضعاتها التشكيلية والتدليلية، ولا غرابة أن تسعى الرواية الجديدة للإفادة من انحلال المركزيات القارة التي حكمت البنيات المعرفية للعلوم، كذلك سعت بشكل جاد لإعادة تحرير القراءة للمرويات الكبرى محاولة توظيفها بشكل جديد ومغاير، ولعل التاريخ بوصفه بنية مركزية تمتلك سلطة زمنية، عمل على مر العصور على صياغة الرؤى والأطروحات الخبرية  مما منحها بعدا "سلطويا" ومالكا لزمام الحقيقة الموضوعية؛ ولكن الرواية الجديدة ومن منطلق مساءلة التاريخ راحت تعيد قراءة الوقائع، وتحاول أن تفكك خطاباتها السلطوية المتخفية تحت ستار الحقيقة الموضوعية تارة، وتارة تحت ستار البعد الوثائقي المحايد، وإذا كان لا بُدَّ من رصد طبيعة التناول والتوظيف للتاريخ في الرواية التقليدية فإننا سنجد أن الرواية التقليدية أفادت من سلطة التاريخ ووثائقيته بشكل حكائي مباشر، ولم تعمد إلى خلخلة وتحرير الخبر التاريخي مما أبقى التاريخ مروية كبرى لا يمكن مساءلتها ولا نقدها، ولا تفكيك شفراتها الزمنية بوصفها تتمتع بسلطة البعد الوثائقي، لكن الرواية الجديدة عمدت إلى إعادة تفكيك الوقائع الوثائقية وأعادت تأويل الخبر التاريخي وسعت إلى تقديم رؤية جديدة تتسق مع نسق التحولات المعرفية التي كشفت عن البعد السلطوي للوثيقة التاريخية، وأنها ليست بمنأى عن المساءلة وإعادة القراءة ومن ثم الإطاحة بسلطة التاريخ ورمزيته، وإدخاله في عملية التخييل؛ لكن على وفق مواضعات المشغل الروائي التخييلي، وإذا كان هذا التحول والمغايرة تأتي على مستوى الدلالي للتاريخ، فثمة تفكيك وتقويض لسلطة الخبر التاريخي، وثمة صياغات أخرى للتاريخ، صارت تولد في المتن الروائي غير مكترثة للخبر التاريخي، ولا لهيمنته الزمنية الضاربة في القدم. 
إنَّ هذا التغاير والاختلاف يؤسس لمغايرة وتحول على المستوى الفني/ التشكيلي، إذ إن الوعي الروائي أدرك أنَّ التاريخ بوصفه مادة خبرية تشكل عنصرا من عناصر البنية الحكائية وتجلياتها، لذا تشكلت بمقصدية في هذا الوعي واتسقت مع انحلال المركزيات المعرفية التاريخية وإمكانية تفكيك تناقضاتها واستثمارها في الخطاب الروائي تشكيلا وتدليلا.
إنَّ الرواية الجديدة تسعى لتحويل التاريخ إلى تقانة فنية جديدة تضاف لتقانات الرواية الجديدة وبهذا نحن أمام تحول وانعطاف كبيرين لمفهوم "التاريخ". فثمة انتقال للتاريخ من حيزه الوثائقي القار إلى بعد فني مفرغ من سلطة "الحقيقة" "والقداسة الزمنية" وهذا سينقل التاريخ في المشغل الروائي من مفهوم الصدق الموضوعي المتمتع بسلطة امتلاك الحقيقة وحيازتها إلى باب الصدق الفني الذي هو عمل مخيلاتي فني، ويمكن لنا هنا أن نشير إلى أن الرواية الجديدة قد أطاحت بسلطة الزمن الوثائقي والبعد الماضوي الذي تتعكّز عليه بوصفه عنصرا بانيا ورئيسا في الحقيقة التاريخية، ويمكن لنا أيضا الإشارة إلى أن الرواية الجديدة عملت على تشييد واقعها التاريخي المعاصر، لكن عبر استحضار شخصيات تاريخية، أو أحداث تاريخية أو التعكّز على مصادر التاريخ الوثائقية ذاتها، وسنأخذ العتبة الروائية/ المخطوط كتدليل علمي فني على هذا الطرح الجديد.
المخطوط / التشكيل المضاعف
معلومٌ أنَّ العتبات هي بنية نصيّة موازية وحافة بالنص الأصل، إذ تتمتع هذه البنية النصيّة الموازية بأهمية كبيرة وتدخل في علاقة تبادلية مع النص الأصل، وهي مناصات من وضع المؤلف  وتعرف بأنّها "مجموع النصوص التي تحيط بمتن الكتاب من جميع جوانبه: حواشٍ وهوامش وعناوين رئيسة وأخرى فرعية وفهارس ومقدمات وخاتمة وغيرها".
إنَّ العتبات تقع في قلب التشكيل الفني للبنية الروائية بمعنى آخر أنها جزء من البنية الفنية/ التقانية للعمل الروائي وتتمتع بأهمية فنية بسبب طبيعة تموقعها الشكلي/ الفني وطبيعة توظيفها تشكيلا وتدليلا ضمن الخطاب الروائي بعامة، فكل "مقدمة، تصدير، خاتمة ستكون جزءاً من بنية الرواية، وهذا يدخل ضمن المستوى التشكيلي للرواية وبنيتها، هذا على مستوى التشكل الفني للعتبة الروائية، وإذا أضفنا البعد الوثائقي للتاريخ وتضايفه مع العتبة الروائية سيتشكل لدينا تضايفا فنيا بين العتبة والوثيقة التي هي "كل أثر مكتوب أو محفور أو منقوش" ويندرج تحت هذا المفهوم المخطوطات، بوصفها جزءاً من البنية المصدريَّة لوثائقيَّة التاريخ.
وفي علاقة التضايف بين العتبة والمخطوط سنجد أنّ الوعي الروائي يعمد إلى تقديم بعد تشكيلي مضاعف، يقوم على عملية تآزر بين العتبة والمخطوط بوصف المخطوط جزءاً من مصادر التاريخ الموثوقة، وهذا سيكشف عن فاعلية التضايف الفني الذي سيمنح الرواية بعدا فنيا مضاعفا، قائما على قصدية عالية تسعى إلى توتير المستوى التشكيلي/ الدلالي، إن إضافة بعد فني جديد للعتبة الروائية يتمثل بمصدر من مصادر التاريخ وهو المخطوطات وبذلك سيدفع لزحزحة فنية ونقل للتاريخ من حيزه الدلالي إلى حيز جديد وبعد تشكيلي مضاعف، ويجعل الرواية تفكك مصادر التاريخ ومركزيته القارة، فتوظيف مفهوم "المخطوط" بوصفه وثيقة، يقوم على بعد ايهامي بعتاقة وأصالة المروي، على اعتبار أن الوعي الجمعي يؤمن بالماضوية، بوصفها نوعا من النقاء، والقداسة، والطهر، من هذه التكوينات الذهنية القارة في الوعي الجمعي، عمل الوعي الفني الروائي على الإطاحة بسلطة التاريخ وهيمنته ونقل التاريخ من مجاله الدلالي إلى مجال فني/ تشكيلي، كذلك عمل على تضعيف سلطة العتبة الروائية على المستوى الفني التقني وأفقه التشكيلي.
إنَّ البنية العتباتية المتضايفة مع المخطوط تتمتع بأهمية ووظائف متنوعة "دينية توثيقية، اخلاقية اجتماعية وسياسية" فالعتبات  تشكل جزءا من خطاب قصدي يعمل على منح النص الروائي بعدا ماضويا قادما من عمق التاريخ؛ ولكنه تاريخ مختلف، إنه تاريخ التجربة الذاتية، وليس التاريخ العام، وهذا الأمر سيعمل على سحب مفهوم التاريخ من فضائه العام وسيطوّح بسلطة الخبر التاريخية، كذلك سيمكن الروائي من تشييد بنيته الخبرية مفيدا من مصادر التاريخ وفي طليعتها المخطوط بوصفه عنصراً فنيا سيحيل التاريخ من مجاله الدلالي إلى مجال فني/ تقني ويكون ضمن لعبة التخييل التي هي  في النهاية اشتغال فني، بمعنى آخر ستكون المخطوطات عنصراً فنيا تقانيا مهمته الإطاحة بوثائقية التاريخ ومصادره، ومن ثم إدخال التاريخ في مشغل التخييلي، وهنا سنجد أنفسنا أمام رواية تجعل من التاريخ بمجمله بوصفه تقانة نصّيّة.