أنبوو بايتي

ثقافة 2022/04/25
...

 ناجح المعموري
(وهبط الملك إلى الحديقة ذات يوم وإلى جواره زوجته وتحت شجرة اللبخ المقدسة جلس الملكان يتساقيان كؤوس الحب. وإذ هما في نشوتهما انتبهت الملكة إلى صوت يقول لهما: 
ــ أيتها المرأة الخائنة... أتفعلين ذلك وأنت تستظلين بظلي أنا زوجك (بايتي).
ــ ها أنذا ما أزال حياً برغم كل أوامرك وخياناتك. لقد طلبت قطع شجرة الطلح ليموت قلبي، وأمرت بذبح الثور لأفقد الحياة، ولكني مع ذلك لا أزال حياً في تلك الشجرة التي تطل عليك كل صباح ومساء). 
 
أيقنت الملكة بأنَّ (بايتي) قد تحول ولم يمت بعد القتل الأول والثاني. لقد تحول إلى شجرة لبخ شاهدة على المتع والنشوة والتي يعب منها الزوجان، ووجودهما تحت الشجرة يذكرنا بالختم الأسطواني السومري والذي كان فيه آدم وحواء متقابلين وبينهما شجرة الحياة.
كان (بايتي) هذه المرة قاسياً وغليظاً معها، وأسمعها كلاماً عنيفاً، ولم تنتظر طويلاً. قالت للملك: 
ــ عدني بحق رع حورس، أن تمنحني كل ما أريد.
ــ وحياة رع حورس، لأمنحنك كل ما تريدين.
ــ أصدر أمرك بقطع شجرة اللبخ.. وليصنع لي من خشبها خزانة جميلة، رائعة.
وفي اليوم الثاني أمر الملك بقطع شجرة اللبخ. ووقفت الملكة تتشفى، بينما النجارون يشقون الساق ويمزقونه ويصنعون لها خزانتها. فجأة.. بينما هي تأمر وتنهى طارت إلى فمها قطعة صغيرة من الخشب ابتلعتها بالرغم منها ولم تهتم لها قط.
إنَّ تعدد الميتات خاصية للإله الشاب (بايتي) وينفرد وحده بهذا التعدد والاختلاف بالطريقة التي يولد بها ثانية. لقد عرفت ديانات الشرق موت الإله وصعوده. ويتكرر هذا الموت سنوياً، أما موت (بايتي) فإنه كسر سياق ما حصل للإلهة، وبذلك اكتسب خاصية مغايرة تماماً، وأعتقد بأنَّ هذا الخلاص المتمثل بالانبعاث المتكرر، بعد كل ميتة، هو تجاوز وتخط لانسحاق الذات الإنسانية أمام وطأة الموت، إذ كان تاريخ الدين والأسطورة تاريخاً للصراع مع الموت، والعالم الأسفل مسيطراً جباراً لا مهرب منه، ولا فكاك من أسره الأبدي، وكان هم الإله الميت أن يحفظ البشر أحياء طيلة الفترة المقررة لهم في العالم الفاني. 
لذلك كان هذا الإله في مراحلة الأولى إله خصب، وقوى طبيعية من دون أن يكون قادراً على تحريره من ربقة الموت، ومنحه خلوداً أبدياً حقيقياً، إلا أن حياته وموته وبعثه كانت أموراً موحية بأمل غامض، ويعد بإمكانية الخلاص من سيطرة الموت كما تخلص منها إله الخصب.
وجسد الإله الشاب (بايتي) تحدياً للزوجة، الملكة، لأنه يعاود تحوله وبشكل آخر، في حدود دائرة الدين والمقدسات المهيمنة. فلم يغادر منطقته هذه لحظة الانبعاث. بل زاد على ذلك من خلال امتلاكه طاقة الاتصال الإدخالي الرمزي/ التمثيلي، حيث دخلت في فمها قطعة من خشب الشجرة وخصبتها من دون علمها. وبما أن شجرة اللبخ هي بذرة (بايتي) التي أنتجته هو بالذات وليس ابناً له، بحيث لم تستطع الزوجة/ الملكة الابتعاد عن القوة السحرية المولدة في جسد (بايتي)، وهو يحدد الطريقة التي يرغب العودة بها إلى الحياة، كما يمتلك لحظة الاتصال الإدخالي/ الرمزي. ولم تتأسس قطيعة كاملة مثلما أرادت هي. 
(ومضت أيام وشهور.. وجاء الملكة المخاض. وولدت امرأة فرعون ولداً ذكراً، لم يكن سوى بايتي هو نفسه) وتتماثل ولادة بايتي بعد الاتصال الرمزي/ والتمثيلي مع ولادات عديدة، عرفتها ديانات الشرق ومنها ولادة زرادشت/ وبوذا/ ويوسف التوراتي/ ويسوع، كما أنه متناظر مع ولادة حورس، المتحققة بنفخة رع على الآلهة الأم/ ايزيس، كما ظهر في أسطورة ولادة الإله الشاب/ حورس. 
مرَّ المجتمع الأمومي، عبر تاريخه الطويل ــ كما أشار لذلك فراس السواح ــ بمراحل متعددة انتهت بالانقلاب الكبير الذي قام به الرجل متسلماً دفة القيادة من المرأة ومؤسساً للمجتمع الذكوري/ البطريركي ونستطيع تتبع وفهم تلك المراحل، وتتبع أشكال العائلة الأمومية ونمط العلاقة الجنسية القائم بين المرأة والرجل في كل شكل.. لكن الجنس النسائي لم يهزم من دون مقاومة. ورغم أن التاريخ لم يحفظ لنا آثار ونتائج الصدام المباشر بين الجنسين والذي حصل ولا شك في زمن ما عند أعتاب التاريخ المكتوب، إلا أن الأسطورة تستطيع تزويدنا بكثير من المعلومات في هذا الصدد، فالأسطورة في بعض جوانبها ذاكرة الإنسانية، فيها تحفظ الأحداث طرية غضة بشكل رمزي لا يتطلب فهمه سوى الإمساك بمفاتيح التفسير. 
إنّ كثيراً من أساطير الشعوب تحتوي عناصر تاريخية واضحة تشير إلى الانقلاب الذكوري الكبير، وإحلال حق الأب محل حق الأم. 
وفي الأسطورة الإغريقية حول أصل مدينة أثينا إشارة واضحة لذلك. ففي صباح أحد الأيام، وقبل أن يطلق على مدينة أثينا اسمها المعروف، أفاق أهل المدينة على حادث عجيب. فمن باطن الأرض نبتت في ليلة واحدة شجرة زيتون ضخمة، لم يروا لها شبيهاً من قبل، وعلى مقربة منها انبثق من جوف الأرض نبع ماء غزير ولم يكن هناك البارحة. 
وقد أدرك الناس أن وراء ذلك سراً إلهياً ورسالة تأتي من الغيب. فأرسل الملك إلى معبد دلفي يستطلع عرَّافته الأمر ويطلب منها تفسيراً، فجاءه الجواب أنَّ الشجرة هي الآلهة أثينا، وأنَّ نبعة الماء هي الإله بوسيدون، وأن الإلهين يخبران أهل المدينة عن أي من الاسمين يطلقون على مدينتهم، عند ذلك جمع الملك كل السكان واستفتاهم في الأمر، فصوّتت النساء إلى جانب أثينا وصوّت الرجال إلى جانب بوسيدون. ولما كان عدد النساء أكثر من عدد الرجال كانت الغلبة لهن، وتم اطلاق اسم أثينا على المدينة. وهنا غضب بوسيدون فأرسل مياهه المالحة العاتية فغطت أراضي أثينا وتراجعت تاركة أملاحها التي حالت من دون زراعة التربة وجني المحصول. ولتهدئة خواطر الإله الغاضب، فرض رجال المدينة على نسائها ثلاث عقوبات: أولاً لن يتمتعن بحق التصويت العام بعد اليوم. وثانياً لن ينسب الأولاد إلى أمهاتهم بعد اليوم بل لإبائهم، وثالثاً لن تحمل النساء لقب الأثينيات ويبقى ذلك وقفاً على الرجال. 
إنَّ أيَّ نصٍّ تاريخيٍّ موثوقٍ صحيح الإسناد وفق المنهج التاريخي الصارم، لا يمكن أن يحمل من صدق الخبر ما تحمله هذه الأسطورة التي تؤرخ فعلاً لانتزاع حقوق المرأة المدنية/ والسياسية/ والاجتماعية عند جذور التاريخ الإغريقي. إلا أن المجتمع الامومي لم يندثر تماماً  بحلول المجتمع الأبوي، بل استمر كثير من قيمه سائداً في بعض المجتمعات الجديدة إلى فترة متأخرة من تاريخها.. وعثر الباحثون على الأساسات الأمومية التي قامت عليها المجتمعات الذكورية الحديثة، وفي الحقيقة أن فهم الثقافة الأمومية بقيمها ومبادئها وحق الأم السائد فيها، هو نقطة الانطلاق لفهم الآلهة الأم التي كانت بالنسبة لإنسان تلك العصور الإلهة الأولى وربما
الوحيدة.