العبقري المحبوب يان ستَين

ثقافة 2022/04/26
...

ستار كاووش

يبقى الفنان الهولندي يان ستين ( 1626 - 1679) من أكثر الفنانين الذين أودّ مشاهدة لوحاتهم، إذ أعود إلى أعماله مراراً، سواء مجموعته الموجودة في متحف رايكس بمدينة أمستردام، أو حتى من خلال الكتب التي تملؤها لوحاته، لأنه فنان فريد وغريب ونادر بكل معنى الكلمة، وله شعبيَّة مذهلة حتى في الأوساط الشعبية الهولندية، وهو الرسام الهولندي الوحيد الذي يوجد مثل شعبي شهير حَولَ لوحاته ويردده الهولنديون كل وقت، حيث يقولون: (مثلَ بَيتِ يان ستين) ويطلقونه عادة على البيوت غير المرتبة من الداخل والمليئة بالفوضى. 
وجاء ذلك لأنه رسام الفوضى بامتياز، وتمتلئ كل لوحاته بالأشياء المُبعثرة والتفاصيل التي لا تخطر على بال أحد.
تركَ يان ستين خلفه ثمانمئة لوحة فريدة، ومن خلالها يمكننا رؤية كل مفردات الحياة الهولندية في القرن السابع عشر، وقد رسمَ كلَّ لوحاته بروح مرحة مليئة بالدعابة.
ولو تَسنّى لأي شخص مشاهدة لوحة لهذا الفنان مئات المرات، فسيكون عليه أن يكتشف في كل مرة تفاصيل لم يكن قد انتبه إليها في المرات السابقة، وقد اجتمعت الموضوعات التي رسمها، مع تقنية مذهلة وإلمام بكل أسرار الرسم، وصل إلى حد الكمال . 
لا أكف من العودة مراراً لهذا الفنان، لأنه يُبهج عيني ويغمرني بالسعادة، حيث أسحب واحداً من كتبه وأتكئ على الأريكة وأتصفح متأملاً التفاصيل التي تطير بي إلـى عصر الباروك الذهبي وحكايات الأراضي المنخفضة وبساطة الناس وكل ما يتعلق بالحياة في ذلك الوقت، وحين أجد صعوبة للإمساك ببعض التفاصيل، أحث الخطى نحو متحف رايكس في أمستردام لأرى كل شيء بوضوح وكما رسمته فرشاته الخالدة.
كانت لوحات ستَين انعكاساً لحياته الشخصية، فهو حتى في بورتريهاته الشخصية يُظهر ذات الروح المرحة والشخصية اللطيفة والمبتسمة، وكان يسخر من أشياء كثيرة من خلال لوحاته المليئة بواقع الناس البسطاء الذين جعلهم أبطالاً لهذه اللوحات، حيث وضع كل واحد في مكان مناسب، ليكونوا كلهم أبطال الحدث ورواة الحكايات التي يسردها هذا الرسام الساحر. 
وقد رسمَ أيضاً، النساء الشابات اللواتي يحاولن بطرق حسية إغواء الرجال والإطاحة بهم أو حتى سرقتهم، كذلك اشتهر برسم الملابس والأقمشة المخملية والفرو الناعم والساتان الذي يلمع بعد أن مَرَّرَ عليه بضع سحبات من فرشاته الفريدة. وهو أكثر الرسامين الهولنديين تنوعاً، ولوحاته مليئة بحركة لا تجدها عند كل الرسامين الكبار الآخرين. 
وُلد يان ستين في مدينة لايدن ( ذات المدينة التي وُلد فيها ريمبرانت قبله بعشرين سنة) وكانت أسرته تملك مصنعاً للجعة، وحانة أيضاً، وهذا ما أتاحَ له رسم مواضيعه المفضلة من داخل الحانة، ولم يكتفِ بذلك، بل عمدَ لجعل أفراد أسرته أبطال لوحاته في الغالب، هذه اللوحات التي تتضمن عشرات التفاصيل والمفردات التي تشعرنا بأننا نشم رائحة المكان ونسمع صياح الناس ونعيش معهم داخل إطار اللوحات، كما في لوحتنا هذه التي اجتمعت فيها تفاصيل لا تخطر على بال أحد، حيث نرى الأطفال يعبثون بالأشياء والرجل الشاب يجلس بخدر قرب زوجته، ويتوسط اللوحة عازف الكمان الذي يُظهر موهبته عند اجتماع الأسرة. مفتاح البيت معلق هنا وآلة موسيقية تتدلى هناك، بينما الإوزة أخذت مكانها على ظهر الرجل الذي ينشغل ربما بقراءة قصائد حب هولندية قديمة للمرأة ذات الملابس الداكنة. 
الأرض امتلأت بكل ما جادت به أيدي هؤلاء العابثين، والكلب الصغير يقف على الطاولة يلتهم بغفلة من الجميع، الطعام الذي أمام المرأة التي غَفَت على الكرسي بعد ظهيرة صاخبة. 
عموماً لا يمكن لأحد أن يَلمَّ بكل التفاصيل هنا، فهذه اللوحة هي كتاب مختصر لتلك الحياة التي كانت تضيء مدينة لايدن قبل أربعة قرون، حيثُ مرسم هذا العبقري المحبوب الذي جمعَ كل شيء في لوحاته، وقال حكايته التي مضت مع التاريخ ووصلت إلينا لنتطلع إليها اليوم بانبهار.