رغد السهيل والتنويع الأسلوبي

ثقافة 2022/04/27
...

 نهضة طه الكرطاني
 
لكل تجربة سرديَّة خصوصيتها وخصائصها، وما تميَّزت به تجربة القاصَّة رغد السهيل بمعايشتها للمدوَّنات السرديَّة في تجارب الكتّاب العراقيين والعرب، والنظر أولاً وابتداءً بعين القارئ المتفحِّص قبل الولوج والخوض في عالم الكتابة الإبداعيَّة، منحها الامتياز بتحرّكها عبر أكثر من أسلوب في مسارها الإبداعي فتنوّعت اشتغالاتها السرديَّة.
وإذا توقفنا عند نوع الأساليب التقنية التي اعتمدتها السهيل وجمالياتها الوظيفيَّة، بما يحدد وفق العناصر المهيمنة على ما سواها، طبيعة كل عمل قصصي أو روائي فنجدها تصدمنا ليس باختياراتها لعناوينها الغرائبيَّة فحسب، ولا باعتمادها أسلوب السخرية السوداء فقط، بل إنّها تضعنا في حيرة الاستدلال على أسلوبٍ يميّزها أو يوحّد أعمالها، فتارة نرى الفنطازيا سيدة الموقف، فتعمل على تنشيط مخيلتنا بأسطرة الأحداث بشكل فنطازي، بينما يندمج الواقع الحاضر مع أحداث الماضي القريبة حتى تكاد تغيب هنا إمكانية التحديد الزماني للعمل، وتتماهى أحياناً مع الأسطورة والموروث الشعبي الحكائي. ثم تعود لتفاجئنا مرة أخرى بعمل يغوص في قصص الناس وأوجاعهم السافرة كما هي بلا منمَّقات تزويقيَّة. 
في أعمالها القصصيَّة ثم الروائيَّة فيما بعد تعوّدت (الكاتبة رغد السهيل) أن تصطادنا بملاقط (الدكتورة رغد السهيل) فتضعنا تحت مجهرها المتفحّص وتمضي لياليها في دراسة كل التفاصيل التي تحيط بنا وما تستتبعه من سلوكيات تؤثر قطعاً في محيطنا وفينا بعد أن نكون قد تكوّرنا ونشبت نتوءات تشكلاتنا الخارجية وفقاً لما عانيناه من إرهاصات وتداعيات. بما يجعلنا أمام تساؤل مُلح هل كانت رغد السهيل في أعمالها الأدبية تبتغي أن تصل بنا إلى أن نحصّن أنفسنا من ميكروبات المجتمعات الموبوءة بالأمراض الاجتماعية؟، عبر اشتغالات سردية ممتعة تسافر بنا في عوالم من الغرابة والدهشة وتستفز خيالنا بخبلها، حتى أنّها تجبرنا أن نضع افتراضياتنا التي تنمو كقصص موازية وكأنّها بذلك تحقق فرضية القارئ المؤلف بعد أن ترغمنا على الاشتراك في وضع فرضيات عديدة لشخصياتها.   
لقد حرصت على قراءة عملها (أحببتُ حماراً) بعد مرحلة التفجّر الإعلامي الذي صاحب تقديم العمل للساحة الأدبيَّة بسبب عنوانه الصادم، بشكل متأمّل بعيداً عمّا صاحبه من ضجيج، فوجدت أنَّ الدلالة في هذا العمل تنخرط في أفعال شخصيات أعمال السهيل وكلامها، فهي تستحضر في أعمالها كل أمراض المجتمع وتناقضاته وردود أفعال أبنائه وانعدام التقارب الفكري والعاطفي بينهم، وقد وظفت مستويات السرد ضمن حكايات أبطالها، لتكشف عن هشاشة البناء المجتمعي وهو يضطهد نساءه ولا يؤمن بهن، مما يجعلنا نتساءل هل أرادت الكاتبة أن تكون نصيرة للمرأة في مجابهة الوحوش الآدميَّة، وهي تضع على الطاولة كل أوجاعها وتتوحّد عندها مصائر النساء سواء في العراق أو أفغانستان أو غيرها من البلدان المتخلّفة؟، وهذا ما يبدو جلياً في مجموعتها القصصيَّة (كللوش) إذ يطالعنا رأي الراوية الضمنيَّة معبراً عن رأي الكاتبة، ربما في البعض من الرجال، حينما تقول «إن الرجال يمتلكون كل شيء لكنّهم بلا رحم ينجبون منه الحياة، وهذا ما يغيظهم فيحاولون التعويض عن شعورهم بالنقص عبر وسائل العنف». 
إنَّها تستمدُّ أعمالها من سطح الحياة العراقيَّة الساخن فتعتمد على متابعة الحياة العامة، شأنها شأن متابعتها للموقف الوبائي الذي يفرضه عليها الواجب الطبي، محاولة وهادفة إلى تأسيس وعي حاد وعميق بإشكاليات مجتمعيَّة، الأمر الذي يتجلّى في قصص مجموعتها (بانت سعاد) التي تعرض لنا في أوجه شتى والاسم واحد (سعاد) البعيدة في كل صورها عن السعادة، فترسم معاناة المرأة على مدى أجيال، تتقلّب فيها فصول الصيف والشتاء.. مكثّفة فصول المأساة عبر أعمالها التي تروي في أغلبها عن النساء ومعاناتهن. وكأنّها بذلك تعيد إنتاج مجتمع مأزوم بإشكالياتٍ عدة. فيتجلى لنا أنها تعمل وفق نظرية توظيف المفارقة في الدمج ما بين السطح والعمق.
لقد تخلصت السهيل من مأزق اللغة الذي يجب أن يتحرك بالتوازي مع حركة الأحداث والأشخاص فكانت لغة أبطالها لغة خاتونات بغداد وصبيانها. 
ونجدها حاضرة تعتمد صوتها في القول حينما تجد أن شخصياتها في السرد والحوار تكون عاجزة أن تقول ما يفي الموقف حقه ربما بسبب فداحته. وغالباً ما تكون حيادية ولا نجدها تشرئب برأسها إلا عندما يتعلق الأمر بالقيم. وفي أعمالٍ أخرى تفضّل أن تقترب من أسلوب (الحتوتة) كراوية حاضرة أو ضمنية، ولربما تأتي مستويات السرد عندها على لسان راوٍ متخفٍ غير ظاهر يقدم لنا الحكاية وكأنّنا نعيشها فقط، فجاءت هذه الأصوات المتداخلة في الروي من معايشتها لشخصياتها الذي يتجلى في بؤر السرد المتعددة. 
أعمال السهيل تشف عن عمق ثقافتها السردية وإتقانها لشروط اللعبة السردية الحداثوية، وبطرحٍ جريء وبحرفية متقنة ومواقف منتقاة، فيها أخبار الشخصية والزمان والأحداث. ملامسة التاريخ بوصفه مأساة، مؤمنة أنّ مهمة السارد الحديث في وضع اليد على الخفايا غير المعلنة والمسكوت عنها من الصراعات، الأمر الذي يحتاج إلى وعي متفتق ورؤية متحررة وأدوات معلومة وشجاعة في الطرح، وهذه كلها وظائف متداخلة ما بين السارد والمؤرخ والراوي الذي يؤسس لنص متسلح بالرؤية والوعي، يتحول إلى وثيقة في مواجهة أدلجة المجتمع عبر الموروث
القامع.    
رغد السهيل ابنة المدينة وبيوتاتها وعوائلها العريقة، في ضحكتها وتلك (الخنّة) المحببة في خامة صوتها تحيلنا إلى بغداد حيث رائحة الشاي المهيّل وطواويس الفضة ومكحلة رابضة فوق الرف وسجادة (الكاشان) تفترش الأرضيات ورطوبة حميمية تلف الجدران (العكادة) ويصدح صوت (الكراموفون) بأغاني سليمة مراد وناظم الغزالي. فكانت بحق تلك الراوية المؤرخة التي انفتحت على المحلة الشعبيَّة في أماكن
متعددة.