احترام الجمهور

الصفحة الاخيرة 2022/04/27
...

سامر المشعل 
أحد أسرار خلود الأغاني واستمرارها في الذاكرة الإبداعية للأجيال مع مطربيها الذين أصبحوا رموزاً فنية وواجهات ثقافية لبلدانهم، أنهم كانوا يحترمون الجمهور ويجدون ويجتهدون ويبحثون من أجل تقديم العمل المتكامل من حيث النص واللحن والأداء، الذي يليق بالمستمعين الباحثين عن الطرب الأصيل، وبالتالي يعمل الفنان على تنمية ذوق الجمهور ورفعته.
وبهذا الصدد يذكر الملحن المبدع بليغ حمدي، أنه اقترح على السيدة أم كلثوم، اختصار المقدمة الموسيقية لأغنية "ألف ليلة وليلة "، وأن تدخل بالأغنية مباشرة، بدل أن تبقى جالسة على الكرسي، تنتظر الانتهاء من الموسيقى، فرفضت أم كلثوم وقالت له "لا يا بني سيبها". بعد ذلك طلبت أم كلثوم من بليغ حمدي، أن يحضر للمسرح، لأن هناك جملة موسيقية تحتاج إلى "تضبيط" قبل أن تفتح الستارة، شعر بليغ أن أم كلثوم، تريد منه أن يحضر الحفل. يعترف بليغ بأنه يخاف من الجمهور ولا يحضر الحفلات التي يلحن أغانيها ويضع الموسيقى لها وعمره لم يحضر أية حفلة، بل هو يخشى حتى سماعها بالراديو، إلا بعد الكوبليه الثاني!، فاتفق مع أحد أصدقائه بأن يأتي بسيارته ويقف قرب المسرح، من أجل أن يهرب معه قبل بدء الحفلة. 
يصف بليغ حمدي الوضع النفسي الذي كانت به أم كلثوم قبل الحفلة وقبل أن ترتدي الفستان الذي ستظهر به على المسرح، بأنها كانت عصبية جداً، وطلبت من عبدو صالح بانفعال أن يكمل دوزان آلة القانون، ويقول بليغ أمسكت يد أم كلثوم، فوجدتها باردة كالثلج!، ثم قالت له: "أنت تريد " تشيل" المقدمة الموسيقية، وأنا جالسة على الكرسي ورجليه تخبط ببعضها من الخوف، هذه المقدمة تجعلني أستوعب الجمهور الجالس أمامي والمنديل الحرير من أجل أن يدفئ يدي المثلجة، وعندما أغني الكوبليه الأول أنسى هذه الناس واختار شخصاً من الجالسين أغني له وأنسى الكل، حتى أقدر أكمل الحفلة، فأنت بأي حق تريد أن ترفع المقدمة؟".
يقول بليغ "ذهلت".. أم كلثوم تخاف إلى هذه الدرجة؟! فردت عليه كوكب الشرق "يا ابني الجمهور إذا لم تحترمه وتعرف قيمته، فأنت تخسره، وأنا ما عندي استعداد أن أخسر الجمهور أبداً".
هذه الحكاية المثيرة التي يكشف النقاب عنها بليغ حمدي، تكشف أن الفنانين الكبار كانوا يهابون ويحترمون الجمهور، وخوف أم كلثوم وعصبيتها، هو شعور يراود كل فنان كبير وملتزم يحترم فنه وجمهوره، لذلك أعمالهم ظلت بالذاكرة الإبداعية، أشبه بالمعلقات الغنائية، التي تتناقلها الأجيال ولا يزيدها تقدم الزمن، إلا سحراً وثراء، على العكس من فناني الأجيال المتأخرة، الذين فقدوا الإحساس بالمسؤولية تجاه الجمهور، وراحوا يستخفون به ويعملون على إثارة قاع المجتمع ومشاكسته، وإفقار ثقافته وذوقه، فخسروا احترام الجمهور والفن.