مفهوم التجديد في الفكر العربي المعاصر

آراء 2022/04/27
...

 علي المرهج
ربما لم يكن مفهوم التجديد في الفكر العربي المعاصر ملتصقاً بنزوع الإصلاحيين أو {السلفيين التجديديين} نحو النهضة كما هو الحال في الفكر العربي الحديث، فقد كان لزكي نجيب محمود المفكر الوضعي المنطقي آراؤه حول مفهوم التجديد، عبر محاولته لربط موضوعة {الأصالة} ـ {التراث مع المعاصرة} ـ الحداثة، فقد تناول في كتابه {تجديد الفكر العربي} موضوعات لم تكن من صميم اهتماماته من قبل. 
 
فقد كان مُهتماً بالوضعية المنطقية وبدعواه للسير ووفق المنظور الغربي للتحديث، وقد كان ذلك بائناً في كتابه "خُرافة الميتافيزيقيا" الذي غير عنوانه بعد النقودات العنيفة لـ "موقف من الميتافيزيقيا" لتخفيف وطأة ما يحمله الكتاب من آراء نقدية قاسية ضد النزوع الميتافيزيقي والغيبي للعقل العربي، وهناك كتابه "المنطق الوضعي" وكتب أخرى كثيرة أكد فيها منحاه العلمي والمنطقي المنبهر بتحولات العقل الغربي ونزوعه نحو التمسك بالعلم والمنطق، ولكنه في كتابه "تجديد الفكر العربي" حاول العودة للتراث والبحث فيه عما يؤيد نزوعه العلمي، ولكن هذه المرة ليس برفض التراث، إنما بالبحث فيه عما يُثبت به نزوعه العلمي والمنطقي واللغوي، فكان للمعتزلة حصتهم وللغزالي حصته في نقده لقانون السببية واقتراب هيوم منه في نقده للسببية وقوله بقانون تداعي المعاني ورفضه للقول بالتلازم الضروري بين العلة والمعلول. وبحثه في جهود الجاحظ ابن جني اللغوية وجهود ابن رشد الفلسفية وتأثره بالفلسفة الأرسطية بطابعها البرهاني ومنطقها العقلاني.
في كتابه "نقد الفكر الديني" حاول صادق جلال العظم  نقد المألوف والسائد في الوعي الجمعي العربي، من هيمنة للفكر الإسطوري وحضوره الفاعل في حياتنا العربية ودعوته لتبني الرؤية النقدية،  نقده لشيوع الفكر الإسطوري حتى في الفكر الديني أيا كان شكله إسلامياً كان أم مسيحياً، ويعتقد أن مهمة الفكر الاشتراكي العلمي "استئصال الأسطرة وإحلال التعليم و الثقافة العلمية محلها". 
فضلاً عن دعوته للنقد الذاتي الذي طرحه في كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، يرى فيه "أن الشخصية العربية تميل إلى إزاحة المسؤولية عن النفس وإسقاطها على الغير، وقد تجلت هذه النزعة بكل وضوح بعد هزيمة مصر في حربها مع إسرائيل 
عام 1967.  
استمد العظم كثيراً من سمات النزعة النقدية من الفلسفة الماركسية، فقد بقيَ أمينا لها ملتزماً بمنطلقاتها الفكرية، لا سيما ببعدها النقدي، وهذا ما دافع عنه في كتابه "دفاعاً عن المادية والتاريخ" "فالماركسية هي فلسفة العصر النقدية بامتياز".   
ركز العظم في نقده على سعي بعض المفكرين الربط بين الدين والسياسة، أوالتوظيف السياسي للدين.
نقد العظم اتساع مساحة القُدسي والمقدس في الثقافة والحياة العربية. فصار كل ما لا تفسير له عندنا معجزاً وصارت بعض شخصياتنا الاجتماعية والدينية بحكم وجودها الفاعل في الحياة اليومية أكثر قدسية حتى من النص المقدس نفسه، وصار الفكر الديني بكل تمظهراته بما فيها الخرافي والأسطوري مقدساً ولا يمكن الاقتراب منه أو نقده، حتى بعض رؤى رجال الدين وتفسيراتهم هي الحقيقة المطلقة التي شاع عندنا أنها مقولات ذات طابع نبوي أو إلهي، لا يأتيها الباطل لا من أمامها ولا من خلفها.
شمل نقده للفكر الديني نقد "ذهنية التحريم" وتبنيه الدعوة لحرية الفكر، وهو ما يعبر فيه عن حال الفكر الديني الإسلامي وسطوة مؤسساته وهيمنتها، وسعيها الجاد لإقصاء التعددية الفكرية والثقافية، معبرًا في ذلك عن ما يتعرض له المفكر النقدي من مضايقات ومحاكمات وحتى تصفية جسدية، سعت أطراف لتكريس "ذهنية التحريم" وكأنها صارت عادة.
وجدنا العظم في كتابه "ذهنية التحريم" ينتقد موقف المؤسسة الدينية ونزوعها نحو التكفير، ويدعو إلى القول "إن ما يُطرح من آراء هي تقع في باب حرية التعبير، وسلاح مواجهة الرأي هو الرأي، والحجة بالحجة. لا التكفير والملاحقة والتهديد بالقتل.
وبالتالي فالعظم ينتقد نزعة التوفيق أو الدمج أوفكرة الانسجام الكامل بين العلم والدين، منتقداً في الوقت ذاته توجه مجموعة من المفكرين الإسلاميين والمسيحيين، لإيمانهم بفكرة التكامل بين العلم والدين، ويجد أن هذه فكرة كهذه قفز على الواقع ولا تتعدى أكثر من كونها مجاملات وجبر الخواطر، الذي يرضي جميع الأطراف ولا يزعج أحدا، لا سيما في اعتماد هؤلاء على القول بخلو الدين من الأساطير لا سيما المفكرين 
المسلمين.
لحسن حنفي مشروعه في التجديد الذي ابتدأه بصورة واضحة، في كتابه "التراث والتجديد" و"علم الاستغراب"، واستكماله لمشروعه في سلسلته "من العقيدة إلى الثورة"، ومن خلال خلطه لـ "الظاهراتية" بـ "اليسار الإسلامي، يُحاول حنفي نقد فكرة "حاكمية الله" وتأكيد "حاكمية العقل"، ومحاولته تأسيس "النقل" وفق مُعطيات "العقل"، الذي كان نهجنا فصار نهج الأمم المُتقدمة، فلا مناص لنا معرفة الغرب والعمل على تأسيس علم مُقالب لـ "الاستشراق" هو "الاستغراب" الذي يدعو من خلاله حنفي إلى ضرورة معرفة الغرب وتوجهاته المعرفية وفرزها عن نزعته "الكولنيالية" "الإمبريالية"، لأن مسيرنا صار مُرتبطاً به وإن كره الكارهون، فالغرب هو من أنتج "لاهوت التحرير" أو "لاهوت الأرض"، الذي يدعو لربط الإنسان بعالمه الأرضي، وكأنه يُطور أطروحة "النعماني" في التأسيس لعلم كلام جديد، ولكن بمنهجيات أكثر حداثة من خلال تبنيه للمنهج "التاريخاني" بعبارة عبدالله العروي، وتأكيده على أن لحوادث الماضي زمانيتها التي حكمت وجودها، لذلك يدعو لتبني القول بأسبقية "الواقع على الفكر" تاثراً بالنزعة اليسارية.
كان هم أدونيس في كتابه "الثابت والمُتحول" البحث في الإتباع والإبداع عند العرب، محاولة للكشف عن طريقين لا يلتقيان في الثقافة العربية، هما طريق "الثابت" وطريق "المتحول"، بنية "الثابت" تحكمها النزعة "اللاهوتائية" كما يُسميها أدونيس، "تحولت فيها الأمة إلى تجريد غيبي" لا ينتمي فيها الإنسان لنفسه بما هو إنسان، بقدر ما ينتمي إلى الدين، "لا قُدرة للإنسان فيها أن يُمارس جوهره الإنساني: حُرية الإبداع، سواء في الفن، أو الفلسفة، أو العمل". 
يُعاني العربي من ثقل الموروث، لأنه "يستخدمه لكي يفهم أي شيء، وما لا يُضيئه هذا الموروث، لا يكون جديراً بأن يُعطى أية قيمة، كأنه يشعر أن هذا المجهول (المُستقبل) يُهدد طاقته على الفه، ويُهدد موروثه الذي يرى فيه الكمال والعصمة...، "فالقديم أصل كامل، وعلى ما يجيء بعده أن يصدر عنه ويتكيف معه، والمُطابقة أخلاقية ولغوية: الأخلاقية هي أن يتطابق سلوك الخلف مع النموذج البياني الأصلي للتعبير (أي السلف)،... واستبعاد المجاز هو المُقابل اللغوي البياني لإستبعاد التأويل، على الصعيد الفلسفي ـ الديني" (الأمر الذي يعني قُدرة هذا العقل على الاستغناء عن الحداثة، لأن للقديم طاقة كي يكون هو مصدر مفاهيم حاضر مجتمعه وعلاقته بهذا العالم، ولا حاجة له بحداثة تُشككه بقدرة ماضيه على التعاطي مع الحاضر وقولبته وفق الأنموذج الأصل والتمحور حول الماضي، لأن في نتاج معرفة الوحي "تأسيس للزمن وللتاريخ في آن، بل هو الزمان كله: الأمس والآن والغد، والآن والغد لا يكشفان عما يتجاوز الوحي، بل إنهما، على العكس، يشهدان له".