علي جعفر العلّاق يكاشفُ ذّاته

ثقافة 2022/04/27
...

  موج يوسف 
 
قد يوحي العنوان للقارئ أنّني أكتبُ عن السّيرة الذاتية للشاعر العلّاق، ربما كذلك لكنها في الشعر، وهذا الأخير بحسب قول الشاعرة لمعية عباس عمارة: (كل أسرار الورى مكتومة، وخفي الهمس مفضوح لديك) فلا سرَّ بين الشاعر وقصيدته، والعلّاق يقوم مكاشفات ذاتية في (فراشاتُ لتبديد الوحشة) ديوانه الشعري الصادر عن دار خطوط وظلال. إنَّ ما يبدد وحشة الشاعر في قصائده هو الآخر، وهنا تأتي اللغة لتخفيه عن القارئ وكأنَّ الشاعرَ يعلن براءة ذاته من الخراب، ويطهّرها بالعذابات. ويمكن أن نقول عن الآخر في قصائده يحملُ ذاتاً مخفية وهذه الأخيرة تتولى مهمة الكشف عن باقي الذوات، فيقول في قصيدة «رحلة الشتاء والصيف»: (رحلتان اثنتان/ وأنت المعلّق ما بين شمسين: واحدة تتوهّج من شدة البرد/ قطعةٌ ثلج تضيء عظامكَ/ واحدةٌ تتفحّم ملءَ العراء../ زمنٌ عزَّ فيه النبيّون/ لا بهجة الاكتشاف ولا رحلة النضج).  
العتبة النصّية الأولى العنوان والذي يتناص الشاعر فيه من الموروث القديم (رحلة الشتاء والصيف) وهذه الرحلات عرفت عند قريش في الشتاء إلى اليمن والصيف إلى الشام، فما الجامع بين الرحلتين والشاعر؟ تمرّ الذات برحلتين في فصول الحياة، وتقسمان إلى: رحلة البحث عن الذات نفسها، ورحلة البحث عن الوجود، و(أنت المعلّق ما بين شمسين واحدة تتوهّج من شدة البرد) نلحظ تقديم الضمير المخاطب (أنت) والذي يوقع القارئ بأنَّ المخاطب المقصود هو الآخر أيّا كانت هويته، لكن الآخر هو الذات المخفية للشاعر ومهمتها  المكاشفة في النص: (واحدة تتوهّج من شدة البرد) هذه الذات المصلوبة بعذاب الاغتراب، وبرد الروح و: (واحدة تتفحّم ملء العراء) الذات المنفية التي تعيش في هامش المكان بعيدة عن جذورها، وهذي الذوات معلّقة بين شمسين، والصورة الاستعارية حققت الجمع بين الذاتين (المغتربة والمنفية). والأفعال (تتوهّج تتفحّم) أخرجت المعنى الدلالي من حقيقته فحلق بسماء الانزياح، فالتوهّج جاء مع البرد وهنا المفارقة التي تدل على تحولات الذات، تتفحّم مع المكان العراء هذا الفعل الذي يدل على الانقطاع من الشيء، فالشاعر يعاني من أزمة ذاتية وهي أين هو من كلّ هذه الذوات؟ وهذه الأزمة أعتقد أن الزمان هو المسؤول عنها (زمن عزّ فيه النبيون) فتغيّر الزمان لا يتمّ إلا بمعجزات، وهذه تأتي مع الأنبياء وزمننا بلا نبوة، إذن لا تغيّر لا بهجة لا تجديد!!، سيظّلُ راكداً في العدم  وهذا ما أوقع ذات الشاعر بمحنة، فهو باحث عن التغيّر ولا يرى الّا سكون، وسبات، وليلٌ مستمرٌّ في الظلام فلا شمس أمل تشرق، ولا أنبياء وربما لا شعراء فيه ـ  يقول في قصيدة «الشريف الشجّي»: (أمس مرَّ الشريف الشجي/ بلا جسدٍ ترفع الأرضُ/ جثتها كي يمرَّ حزيناً بدا ناقضاً فرط غيظٍ/ عباءته../ قلت: يا سيدي/ أين ولّى زمان الرضا؟). استندت الذات الشاعرة إلى شاعرٍ مرَّ على جسد القصيدة من دون جسده!، فالمفارقة الافتتاح «الشريف الشجي» والختام (أين ولّى زمان الرضا)، فانقسم الشريف الرضي وكان نصفه هو متن النص، والشاعر العلّاق في هذا النصف الذي حضر باحثاً عن الزمن، ويكمن هذا الأخير في الماضي، (أين ولّى زمن الرضا) ليس سؤالاً استفهامياً عن الرضي، بل سؤال الزمن الذي يمحو كلّ من تعلق أقدامه به، الزمان قاتل للجسد، والمكان هو الجثة التي تدلل على أن الإنسان كان يرقد عليه؛ لذا فالشاعر بمشهده المرئي لصورة الشريف بلا جسد يستفز الإنسان، ليقول له أينك؟، الذات تكشف عن ضعفها وتشتتها حتى صارت تتمشى مع القصيدة.   ابتكر الشاعر ذاتاً ناطقة عنه متخفّياً بها، ويوهم القارئ أنّه يخاطب الآخر لكن الآخر يفضح الشاعر، ويكشف لعبة المناورة التي ووظّف لها لغةً خاصة، لتسعفه بلعبة التخفي، ولما يصرُّ على الاختباء خلف الآخر؟ (كيف أتيح لك ما لا يتاح لسواك من صناعة الكلام) ومن هم صنّاع الكلام؟ في ثقافتنا العربيَّة أنَّ الشعراءَ أمراء الكلام، وهذه الجملة تكشف أن الشاعر يخاطب الآخر وهو نفسه، وفي داخله يجلس الناقد (أعني قصيدتك التي شحنتها حدَّ الاختناق بكوارثنا التي تجدّد كلّ يوم) القصيدة تعيش مع الجمال ولا مجال للخراب أن يشترك معها، وعندما دخل الخراب، والدمار إليها انتبه الشاعر إلى أنها اختنقت، فوجّه النقد لذاته عن طريق ضمير المخاطب وهو الآخر.