{المسحرچي} في أزقتنا

الصفحة الاخيرة 2022/04/27
...

 بغداد: نوارة محمد
"اللعنة"، قال أحمد وهو يهز رأسه ببطء، وقد اعتمر قبعته "النايك" بينما شعره المربوط على شكل ذيل حصان ينسل من فتحتها، متذمراً "الوضع كله صار لا يطاق، هذه معزوفة وطبول مو دقة "أبو سحور" وهو يفتح قفل باب منزله قاطباً حاجبيه، كانت حفلة ما بعد منتصف الليل قد بدأت للتو. .
 
في الحي الذي أغلب سكانه من الطبقة المتوسطة وما دونها ويبدو هذا واضحاً من شكل البيوت المدهنة بالألوان الرثة ومحجرات الحديد وهي تستقر على الرصيف تشير إلى تجاوز
أصحابها.
 هناك حيث الأطفال والفتية يشكلون حلقة دائرية راقصة حول المسحرچي بجسده النحيف، مرتدياً بلوزة تبدو أصغر من مقاسه وبنطال بفتحات عند الركبتين، وشعرهُ لامع وشحوب وجهه يوحي لشيء من الفقر. 
اعتاد أحمد على هذا المشهد، لكنه لم يكن قادراً على تجاوز الحالة، فما أن ينسدل على فراشه حتى تقرع طبول "أبو السحور".  
قال مشيراً بيده: "أبو السحور ورانا شغل عيني نريد ننام".  
ويجيبه أبو السحور مستغرباً: "وكأنك في عالم غير رمضان يا خويه! هذا شغلنا احنه هم على باب الله".
يصمت الأطفال لدقائق وتختفي من وجوههم الابتسامة، لكن الرقصات والأهازيج تعود فور عودة قرع طبول "المسحرچي" وهو يكمل رحلته بين الأزقة حيث يجتذب الأطفال والفتية، فما أن يقترب حتى يهرعون مسرعين نحوه ومن دون استئذان.
تخطت الساعة الثانية صباحاً، ولا يزال أحمد يحاول سرقة دقائق إضافية، ليهرب من فظاعة ما يدور حوله، يرى فكرة أن يتصفح آخر كتاب اقتناه، لكن الخيبة تحيط به، يطوي الصفحة ويغرق في صمت مهيب، وسرعان ما تلاشى يقينه بأن الأحلام تبدو قريبة مهما بلغت صعوبتها، كيف وجدران غرفته متهالكة، لا تمنحه حتى العزلة الكافية، كلما يغرق في السيل الجارف من الكلمات يذكره قرع طبول "المسحرچي" بسذاجة الواقع، وسُخف الحياة. 
يرحل "المسحرچي" لكن تكبيرات أذان الفجر تكسر صمت الغرفة وهي تُبث من مكبرات الصوت من الجامع القابع في آخر الشارع.
في السابعة صباحاً يهدأ صخب الحياة إلا أن صاحب عربة بيع المياه يرُدد صيحاته "مي آرو… مي آرو" فتذكره بأن العالم فضاء واسع والكل على باب الله.