لحظة غاب القمر إلى الأبد

ثقافة 2022/04/29
...

 بغداد: ابتهال بليبل 
في ليلة ليلاء ماتزال ماثلة في مُخيّلتي حتى الآن واسترجعُ تفاصيلها المخيفة كلّما حدث خسوف للقمر، إذ كان درسنا في العلوم يومها عن ظاهرتي الخسوف والكسوف، ولأنّني كنت طفلة ذات خيال شاسع فقد تخيّلت غيابا أبديّا للقمر، فخرجت إلى باحة الدار ولوّحت له مودعة إياه،
 
 ونمت على ايقاع كوابيس مرعبة رأيت نفسي فيها أركض تحت سماء حالكة الظلمة، ثمّة نجوم بعيدة فقط، نجوم  تائهة، لكنه، قمرنا الساطع، قمرنا البازغ غير موجود، في ذلك الصباح وبعد خروج المعلمة أتذكّر أن إحدى الطالبات ضربت بكفّها على خشب الرحلة وردّدت أغنية بها من التوسل الكثير عن (حوت) عملاق يبتلعُ القمر العالي، هذا الحوت وذكريات تلك الليلة ودرس العلوم القديم كلها تجمعت لحظة قرأت الخبر الصادم عن رأي لأستاذ رياضيات أمريكي يقترحُ فيه تفجير القمر بسلاح نووي لحلّ مشكلات المناخ المتفاقمة في العالم!
ولنفترض جدلاً أن القمر غاب إلى الأبد.. ماذا سيحلّ بكم هائل من الموروث الشعري وعن ماذا سيكتب الشعراء؟ 
فنحن نعرف من خلال وكالة ناسا أن القمر حجرٌ جاف قاسٍ ولكنّه في السماء، دائرة من سطوع، المبهر الساحر، وما بين علمنا الواقعي بأنّه مجرد أرض جرداء وما بين وهمنا الأقرب للحقيقة بأنّه من أجمل ما يمكن أن نشاهده.. ظهرت القصائد والقصص؟.   
ولو تخيلنا درسا في النقد الأدبي بعد 20 عاما سيقف الأستاذ أمام طلابه ويقول لهم (والليالي تزيّنها الأقمار) قصيدة كتبها الخليفة العباسي المستنجد بالله.. والأقمار جمع تكسير لقمر وهو جرم سماوي اختفى!، هل يمكن أن تتخيل حجم الألم الذي يسببه هذا الاقتراح؟.
وهل لجأت إلى القمر ذات يوم تبثّه شكواك؟، المألوف أن يشعر الإنسان أن قمر بلاده يخصّه وحده فقط.. وتلك من الغرائب على الرغم من يقينه أن القمر واحد في كلّ أنحاء العالم!، ماذا سيغيب معه إن غاب؟.
 
سماوات التأويل
يتذكّر الناقد الدكتور نصير جابر حينما قرأ هذا الخبر بحروفه الترابية الواقعية حدّ القرف سلسلة من الخسارات الفادحة التي مُنينا بها بسبب جهل الإنسان وسوء تخطيطه وتخريبه لموارد الأرض ومساهمته في انقراض أنواع كثيرة من سلالات الطيور والأزهار والأشجار. 
ويتساءل: هل يستحقّ المناخ والاحتباس الحراري أن نفقد (القمر)، نفقد ذلك الجرم الذي يلهمنا المحبّة حتى أننا نلجأ إليه دائما لنصف وجوه حبيباتنا.  
غياب القمر، بالنسبة لجابر، وإن كان مجرّد افتراض الآن هو خسارة بطعم الخيبة وخيبة بطعم الخسارة، إذ لا يحقّ لأحدٍ أن يسلبنا الحلم ولو افترضنا جدلاً- وفرض المحال ليس بمحال كما يقال- فلا بدّ أن يدور من يريد أن ينفذ هذا الكابوس المرعب على سكّان الأرض واحدا واحدا ويسألهم هل توافق أن نسلبك حلمك؟.
ويعتقد أنه لو غاب فعلاً ففي الشعر وفي النثر وفي زوايا القصائد سنقف نتأمل شروقه في سماوات التأويل ومن ثمّ سننتظره وقد أصبح من ضمن الخسارات التي أرشفتها رفوف المخيال الجمعي. 
 
دع القمر وشأنه يا الكساندر
يقترح ألكساندر أبيان، أستاذ الرياضيات في إحدى الجامعات الأميركية أن “نفجر القمر” بسلاح نووي وذلك للحد من مشكلات المناخ المتفاقمة في العالم بينما ابن زريق البغدادي يقول “استودع الله في بغداد لي قمرا” فيا للقمر المسكين! ترى هل حان قتله اليوم وعلى يد الأميركان أيضاً. 
هكذا بدأ الشاعر والمترجم رعد زامل حديثه في إشارة إلى أن أحد الشعراء كان ينظر إلى الشمس على أنها حشد من الملائكة، القمر دائرة الالهام ونديم السهارى والعشاق، ربما القمر أيضا واحة الضوء للظامئين إلى وجه الحقيقة.   
يقول زامل “حسنا يا الكساندر” ويتساءل ثم ماذا بعد ذبح القمر وتناثر اشلاؤه على وجه البسيطة. 
ماذا سوى أن تغدو الأرض حفرة لا قرار لها في الظلام. 
هل ستكفي كل شموع العالم لطرد الظلام الذي تزرعونه في الأرض.
اتركوا شمعة الله الكبيرة المستديرة وشأنها.  
يتذكر الزامل كيف أنه كتب في عام 1996 نصاً قصيراً، حيث يبدو القمر صديقي الحميم وملاذي الآمن وركني الحصين: (سأفر كأرنب مذعور/ مادامت أمي تعتقد/ أن الشمس رغيف حار/ وأبي لكي يشاطرها الرغيف/ يدّعي: أن الأرض بيضة مسلوقة/ هكذا شيئاً فشيئاً/ امتلأت حياتي بالقشور/ لا أستطيع أن أحلّق في/ فضاء القصيدة/ فهناك من يظنني عصفورا/ وبعيدا عن الأشجار هناك من/ يطلق عليَّ النار من فمه/ لا أستطيع أن أتحدث/ مع زوجتي/ إنها تخفي تحت لسانها/ عبوة ناسفة/ لذلك رزمتُ حقائبي/ سأغادر هذه الأرض باتجاه القمر/ لأنه مازال يشع بالحليب).
 
هو لي وحدي 
هكذا اقتراح لا تتمكن الشاعرة ليلى عبد الأمير من تصديقه وتقول إن افترضنا جدلاً المقترح صحيح فإنَّ ذلك يعد مفاجأة مضحكة من قبل أستاذ الرياضيات الأميركي، ومرفوض جملة وتفصيلاً. 
القمر، بالنسبة لعبد الأمير، ظاهرة طبيعية لطالما رافق حياتنا بكل حذافيرها وأثار إعجابنا، لقد كنا أحيانا نعده الشاهد الوحيد لكل مشاعرنا. 
وترى أن الشاعر يتغني بكل المظاهر الطبيعية، ومنها القمر، لذا فهي تعتبره كائنا حيا قريبا لأروحنا، كما نتغنى بالأشجار والغيوم والورود وكل ماهو يحيطنا. 
رغم أن القمر كما الشمس وبقية الكواكب والأجرام السماوية، إلّا أن إحساسنا عنه يرافقنا كظلنا، “أشعر وكأنه وجد لأجلي هو لي وحدي، وإنه يبادلني نفس الأحاسيس”، لذلك أستبعد أن يتجرأ أي كائن مهما بلغت الأسباب أن يمس وجوده الكوني بسوء، إذ لا يمكن أن نتصور الحياة بلا قمر، كما لا يمكننا أن نعيش بلا شعر”، على حد قولها.
 
إذا طلع القمر طاب السهر
يبدأ أستاذ اللغة العربية عكرمة محمد أمين بحديثه عن مقولة رائعة تقول (إذا طلع القمر طاب السهر)، ويعتقد ألا يهمنا إذا كان القمر مجرد أرض جرداء لمن رآه عن قرب، لأننا نراه ذلك المنظر الجميل الذي يأخذ الأذهان إلى ما هو يسحر العقول، وما أجمله عندما يكتمل بدراً، حتى حين يكون هلالاً. 
ويقول “كثيرون من الذين تغنوا بالقمر وكتبوا عن جماله وتشبيهه الجميلات”. 
ويرى أن اختفاء القمر من الناحية العلمية سيكون له تأثيرات كبيرة علينا نحن كبشر، وعلى جميع الكائنات الحية، بل على كوكب الأرض بأكمله. 
أما من الناحية النفسية والوجدانية فيتساءل “كيف لنا أن نتخيل بأن نفقد ذلك الجسم الفلكي الآخاذ من شرفاتنا في معظم الأمسيات؟ 
أحيانا نكون وحيدين على الارض وأعيننا على القمر نلجأ إليه ونبث له شكوانا ولعل من أجمل ما قرأت عن مخاطبة القمر: (بيني وبينك مشتركات/ كلانا وحيد/ أنت وحدك في سمائك/ وأنا وحدي في أرضي/ كلانا يمضي دربه صامتاً هادئا حزيناً، لا يلوي على أحد ولا يلوي أحد عليه/ كلانا يظهر للآخر في ظلمة الليل فيسايره ويناجيه/ يراني احدهم هكذا فيحسبني سعيداً/ لأنه يغتر بابتسامة على وجهي/ ولو كشف عن نفسي ورأى ما بها من هموم وأحزان لبكى لي بكاء الحزين على الحزين/ ويراك احدهم فيظنك مسروراً فرحاً/ يغتر بجمال وجهك ولمعان جبينك/ ولو كشف له عن عالمك لرآه موحشاً خراباً مظلماً/ لا تهب ريح ولا يتحرك به شجر ولا ينطق بشر). 
ويشير إلى أنه لو غاب القمر يتمدد الظلام كغراب عملاق، تسود هالة من الوحشة والقلق.