حين تتحول الألوان إلى كائنات حيَّة

ثقافة 2022/04/30
...

ستار كاووش

يقول الفنان الروسي فاسيلي كاندينسكي (1866 - 1944) إنه قد عادَ متأخراً ذات مساء إلـى مرسمه في مدينة ميونخ، وحين فتح الباب وجد لوحة غريبة عنه، ذات جمال لا يوصف، موجودة على مسند الرسم، كانت عبارة عن لطخات ومساحات من الألوان والبقع المضيئة فقط، ولا تحمل موضوعاً أو شكلاً محدداً، لكنها رغم ذلك تعكس تناغماً جميلاً في تكوينها، وفجأة انتبه إلى أنها لوحته، وقد نسيها مقلوبة قبل خروجه من المرسم! في تلك اللحظة ابتدأت أولى الخطوات نحو الفن التجريدي، وفكر كاندينسكي وقتها أنَّ اللوحة يمكن أن تكون جميلة وممتعة ومؤثرة دون أن تمثل موضوعاً من الواقع، وأخذ يقلل التشخيص في لوحاته شيئاً فشيئاً، حتى صارت أعماله تجريدية بشكل كامل. 
كانت تلك الانتباهة التي حدثت في المرسم، نقطة حاسمة في ظهور الفن التجريدي، وقد تزامن ذلك مع محاولات موندريان ودولوني وحتى بيكابيكا.
لكنَّ كاندينسكي، وبفضل ثقافته العميقة وأفكاره الروحانية وانغماره بإيحاءات اللون، توضحت استعداداته، وظلَّ يبحث عن مصادر أخرى تعينه على المضي في هذا الطريق.
كان يفكر بالألوان كأنها كائنات حيَّة وتمنح أحاسيس متباينة، وكل لون له شخصيته وتأثيره المختلف في نفوس الناس، لذا أضافَ إلى كل هذه الاهتمامات، انغماسه الكامل مع موسيقى أرنولد تشوينبيرخ -وهو مؤلف ومنظر ومعلم للموسيقى، نمساوي الأصل، وصاحب نظريات كثيرة حول الموسيقى، وهو الذي أسس الموسيقى ذات الاثنتي عشرة نغمة، ويعد من أكثر الشخصيات الموسيقية تأثيراً في القرن العشرين، فأخذ كاندينسكي يستمع إلى هذه الموسيقى ويتماهى معها، في ذات الوقت الذي يمرر فيه فرشاته على قماشات الرسم ويضع ألوانه تبعاً لتناغمات الموسيقى. 
ليكتب كاندينسكي بعدها نظرية أسماها نظرية الجرس (الإيقاع) التي قال فيها إنَّ كل لون له صوت ونغمة معينة. 
قبل كل هذا، بدأ كاندينسكي مسيرته الفنية بأعمال تعبيرية فيها تأثيرات من الرموز والألوان والزخارف الروسية القديمة، وعند انتقاله إلى مدينة ميونخ أسس جماعة الفارس الأزرق التعبيرية، صحبة فرانس مارك وأوغست ماكه، وقد جاء اسم الجماعة من اسم لوحة له، كذلك من ولعه هو وفرانس مارك باللون الأزرق والخيول. 
اللوحة التي نعرضها هنا عنوانها (تكوين)، رسمها كاندينسكي سنة 1910 وهي من مقتنيات متحف سالمون غوغنهم، نيويورك. 
نرى فيها بوضوح كيف ابتعدَ هذا الفنان عن التشخيص، وصارت لوحاته أكثر تجريدية، حيث لا نكاد نرى هنا سوى ظلال لبعض الهيئات الغامضة التي تتحرك وسط الألوان ولا يمكن تمييزها إن كانت نساءً أم خيولاً، أشجاراً أم غيوماً.
في الحقيقة لسنا بحاجة لمعرفة هذه الهيئات، لأنَّ اللون هو من يبعث التأثير، والمساحات المتجاورة هي التي تبث النغمات، والتكوين الأساسي صنعته الكتل والانحناءات ولمسات فرشاة تنسجم مع الموسيقى. 
ألمْ يقولوا إنَّ الموسيقى هي قمة التجريد؟ وهذا هو ما أراد كاندينسكي إثباته على قماشات لوحاته التي امتزجت فيها الألوان مع بعضها وتجاورت بانسجام، وكأنها فتيات يتراقصن في واحدة من حفلات قرية روسية. 
عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، عاد كاندينسكي إلى روسيا، وعملَ هناك مدرساً لبعض الوقت، لكنه رجعَ إلى ألمانيا بعد الحرب، وعمل أستاذاً في مدرسة الباوهاوس صحبة الفنان بول كليه. 
وكانت هذه الفترة هي الأكثر خصوبة في مسيرته، حيث مزجَ ألوانه الغنائية مع الأشكال الهندسية. 
لكنه اضطر للهجرة من جديد، بعد تصاعد المد النازي في ألمانيا، حيث غادر إلى فرنسا واستقر هناك يرسم أحلامه الملونة ونغمات فرشاته المتدفقة… حتى وفاته.