الإطنابُ السرديُّ

ثقافة 2022/05/07
...

 محمد صابر عبيد
عرفت البلاغة العربيّة مصطلح "الإطناب" نقيضاً لمصطلح "الإيجاز" في ظل الزخم التنويعيّ الغزير لمصطلحات البلاغة العربيّة، وبما أن "البلاغة" في أبسط تعريفاتها لدى جمهور البلاغيين تتمثّل بإيصال معنى الخطاب كاملاً إلى المتلقي، فهذا يعني أن "الإطناب" هو أحد الوسائل البلاغيّة التي تسهم في إيصال المعنى الكامل إلى مجتمع التلقي حين تقتضي الضرورة الكلاميّة ذلك على نحوٍ من الأنحاء.
أتى على تعريف "الإطناب" كثير من علماء البلاغة واللغة والأدب في سياق لا يبتعد فيه تعريف عن آخر كثيراً، وقد عرّفه أبو هلال العسكريّ على سبيل المثال بقوله: "الإطنابُ بلاغةٌ" وفرّقَ بينه وبين ما سمّاه "التطويل" حين أردف: "التطويلُ عَيٌّ فليس له فائدة"، وأكمل تعريفه بالقول: "الإطنابُ بيانٌ والبيانُ لا يكونُ إلا بإشباعٍ وزيادة"، ولا بدّ في هذا المقام من استحضار مصطلح آخر عرفته البلاغة العربيّة يقترب كثيراً من مصطلح الإطناب هو "المبالغة"، وهو فنٌّ بديعيٌّ مستقلٌّ بذاته وله أقسام ومناسبات وضرورات بلاغيّة محدّدة.
يمكن في هذا المضمار معاينة مصطلح سرديّ ذي طابع فلسفيّ بعض الشيء هو مصطلح "التسريد"، والمقصود منه لدى من تناوله هو في المقام الأوضح بعثُ أعلى وأوسعِ طاقةِ سردٍ ممكنةٍ في الكلام، وتدعيم قدرته على المقاومة بوصفه سرداً بديلاً قادراً على الاستجابة للتحوّلات الاجتماعيّة والثقافيّة الهائلة في المجتمعات الحديثة، بما يجعل السرد قيمة اعتباريّة تُقاسُ درجتُها بما تؤدّيه من وظيفة في إنتاج المعنى وتوصيله بقدرٍ مناسبٍ من الإشباع السرديّ، وقد يحتاج السارد إلى زيادة في الكلام لملء الثغرات التي ترافق المحكي بسبب عوائق قوليّة ذات مرجعيّة اجتماعيّة أو ثقافيّة، على النحو الذي يستلزم إطناباً سرديّاً يستهدف الإشباع والزيادة لتأدية المحكي السرديّ بأكمل صورِ الخطاب وحالاته.
نستطيع أن نصطلح على هذه الحالة السرديّة بـ "الثرثرة السرديّة" التي تشبه إلى حدّ ما حالة التفلسف عند الفيلسوف، فحين يتفلسف الفيلسوف يُنتِج الفلسفة؛ وحين يثرثر الروائيّ يُنتِج رواية، ولا شكّ في أنّ الثرثرة لا تعني هنا قولاً زائداً لا فائدة منه؛ بل يعني فيما يعنيه زيادة تؤدّي وظيفة سرديّة مهمّة تقود إلى "الإشباع السرديّ" المطلوب في منطقة التلقّي، إذ تقوم هذه الثرثرة السرديّة بِرَدم مجموعة من الفراغات في فضاء المحكي تتركها الحكاية أو الشخصيّة أو الحدث، فتأتي الثرثرة كي تملأ هذه الشقوق أو الفراغات ليستوي المحكي ويُدعَم ويتسلّح بطاقة سرديّة تُشبِع رغبة السارد بالحكي من جهة، وتروي ظمأ المتلقّي لمعرفة مزيد من الأشياء حول الحكاية أو الحدث أو الشخصيّة أو عناصر التشكيل السرديّ الأخرى.
لا بدّ من التفريق في هذا السياق بين "الثرثرة السرديّة" الضروريّة في أيّ عمل سرديّ -ولا سيّما الرواية منه على نحوٍ خاصّ- و"الفائض السرديّ"، كما يحصل التفريق بلاغيّاً بين "الإطناب" و"التطويل" في درجة نوعيّة من درجاته، ففي حين يكون الفائض السرديّ عبئاً على الجسد السرديّ يقوده إلى بدانة ضارّة تشوّه نضارته ورشاقته وتكوينه الأنموذجيّ المطلوب، فإنّ الثرثرة السرديّة تسهم في إنتاج معرفة سرديّة لا يمكن إغفالها أو تجاهلها لساردٍ عارفٍ يدرك تماماً كثافة المحكي المطلوبة في كلّ صفحة من صفحات النصّ السرديّ، وحين يشعر هذا السارد بحاجته إلى توضيح فكرة سرديّة وإشباعها عن طريق فتحها على مزيد من التفاصيل المُغنية، أو يحتاج إلى توكيد المعنى بدرجة عمقٍ أكثر كثافة وإظهاراً وإشهاراً، أو تثبيت رؤية على نحوٍ يحقّق إثارة مطلوبة للمتلقّي وتنبيهاً لمقتضيات لفت نظر التلقّي نحو حالة مقصودة، فإنّه يسعى إلى استخدام آليّات الثرثرة السرديّة لبلوغ أمثل وضع سرديّ ممكن يخصّب العملية السرديّة، ويجعلها أكثر قوّة واستعداداً للتفاعل والتواصل والتداول مع مستقبِلات مجتمع التلقّي.
يتحرّك في هذا المضمار الاصطلاحيّ مصطلح قريب من هذه المداخلة هو مصطلح "الإسهاب"، الذي يراه بعضهم قريباً من فكرة التطويل أو الفائض القوليّ حيث لا ينتهي إلى إضافة طريفة يمكن أن تُلحقَهُ بمصطلح "الإطناب" أو "الثرثرة السرديّة"، لكنّنا نجد في هذه المناسبة أنّ مصطلح "الإسهاب" هو مصطلحٌ وَسَطٌ بين الإطناب والتطويل، أو بين الثرثرة السرديّة والفائض السرديّ، وبوسعنا توصيفه في مجال رغبة السارد في التوسّع لتحقيق نوع من الإشباع القوليّ الخاص به، بمعنى أنّه يشعر بحاجة نفسيّة خاصّة لمزيدٍ من القول في نطاق الشرح والتفصيل المعبّر عن رغبة عميقة في فرض وجهة النظر على نحوٍ ما.
إنّ خاصيّة "الإسهاب" في هذا السياق تتعلّق حصراً بحالة السارد ومقصديّته في التوسّع وحشد ما بوسعه من الإضافة لتكريس المعنى الذي يريد في تلك اللحظة، وقد يعثر على متلقٍّ يستحسن هذا الإسهاب ويبرّره بناءً على لحظة تلقٍّ تتجلّى فيه صورة التوافق مع السارد، وفي الوقت نفسه قد يعثر على متلقٍّ آخر يفقد هذه اللحظة التفاعليّة مع السارد فلا يرى في إسهابه ما يمكن تبريره، وعندها يُدرجُهُ المتلقّي الأوّل داخل فضاء مصطلح "الإطناب/ الثرثرة السرديّة"، ويدرجه الثاني داخل فضاء مصطلح "التطويل/ الفائض السرديّ"، ويحصل المصطلح بحسب توجيهنا النظريّ هنا على حدوده الاصطلاحيّة المعقولة، وربّما يكتسب شرعيّته إذا ما طُبّقَ إجرائياً في مقاربة نماذج سرديّة تؤكّد صحّته وصلاحيّته وحضوره.