لميس حيدر في «زيزفون البيادر» ..سرديَّة الأنا المُفكّكة في حسابات الرواية الجديدة

ثقافة 2022/05/07
...

 الحسام محيي الدين                                                    
 
نقرأ في رواية "زيزفون البيادر" الصادرة عن دار النهضة العربية، بيروت للروائية اللبنانية الدكتورة  لميس حيدر حكاية الأم التي تبسّط سيرتها الذاتية في رحلة سرديّة تتمثل تفاصيل علاقاتها الأسرية مع أولادها، الذين كبروا وتوزعوا في دروب الحياة، فمنهم من سافر ومنهم من بقي في البلاد، لكنّ اهتمامها مُنصَبّ بالطبع على ابنتها "شَهد" الأستاذة الجامعيَّة التي تزوّجت من شاب تحبه وهو يعمل في بيروت وأنجبت منه صبياً وابنتَين شاء القدر أن تسافرا إلى فرنسا للدراسة. 
للمفارقة فإنَّ هذه الأم متوفاة منذ زمن، تعيد حيدر إنتاجها في تكنيكٍ سردي، فتُحييها وتُميتها بشخصيةٍ مُتحوِّلَة مركّبة الحضور بين الموت والحياة على مستويين تقنِيَّيَن يتعالقان الزمنَ الروائي (الواقعي): فهي المَيتَة الصّموت داخله عندما تتكلّم "شهد"، وهي الحيّة المُتكلمة التي تنقلنا خارجه عندما تسكت الأخيرة، لكنها في الحالتين تُصادرالمشهد الروائي بمعظمه، وتسوقُ الأحداث بصيغة المُتكلم، السّارد العليم، الذي يُعلّق، يصِف، يسترسِل، ويفرضُ رؤيته الخاصّة للتدخل دائماً في مسار القصّ، وإنْ منحتْ لابنتها "شهد" أن تتحدّث كصوتٍ ثانٍ غير مرة لخدمة فنية المادّة الروائية ولتسويغ وجودها ودورها المُتصّل بموضوعاتٍ مُلحّة راهنية الفِعل والتفاعل من حولهما. هكذا تتناوبُ الشخصيتان السرد، وتبسطان سلسلة مشاهد ومواقف اجتماعية متعاقبة عاشتاها معا: من حرب تموز وويلاتها إلى ثورة 17 تشرين في لبنان إلى جائحة كورونا التي قضت على الكثيرين من الأصدقاء والأحباء، إلى فساد المنظومة الحاكمة في السياسة والاقتصاد والصحة العامة، مَرَضُ الأمّ لأكثر من عشرين عاما، ثمّ مأساة حجز أموال إخوة "شهد" في المصارف وغير ذلك من المشكلات التي زرعتْ في الأمّ نظرةً عدميّة إلى الحياة، وتمنيّاتٍ دائمة بدنوِّ الموت. 
عطفاً على كلِّ ذلك، كانت مشكلة عدم تعيين "شهد" في الملاك الجامعي بالأصالة هي الأساس، إذ شكّل التوزيع الطائفي سبباً رئيساً في استبعادها عن حقّها الوظيفي وبؤرة فاعلة في تكوّنِ المعاناة النفسية لديها، بعدما "خانت عُمرها" في جهود البحث والتعلم والتدريس بالتعاقد بل والتحركات المتكررة في الشارع مع زملائها الأكاديميين رفضاً للمُحاصَصَة وابتزازات أحزاب السُّلطة التي ترى إلى تعيين من يخضعُ لها. تتفاقم الأوضاع باتجاه الأسوأ في البلاد، ولا يتحقق شيء من كل ذلك، فلم يتم تعيين "شهد" عام 2006 ولا عام 2012، ليتحول الموقف فجأة إلى جنازة "شهد" وقد قضَتْ صدفةً في انفجار مرفأ "بيروت" الشهير بإصابةٍ في الرّأس وهي تزور أخيها في المدينة. ابتعدت الرواية قليلاً من تقاليد الحبكة المعروفة في أي منجز روائي بما هي ترابط وَعَوِيّ بين الأحداث والشخصيات في الزمان والمكان، واقتربت من التصميم الخاص الذي يتناغم وماهية الرواية الجديدة التي تحاول تفسير الواقع وفهمه بأدواتها السردية الخاصة، كالتجاور والتداخل والانحرافات والوصف والاسترسال والتأمل، مِمّا تكوّرَ بمجمله على وحداتٍ قصيّة مُقَطَّعة لكلٍّ منها حكايتها الخاصة في المنقود الذي بين يدينا: محنة الجارة العقيم "أم راضي" مع زوجها القاسي الذي تزوج بأُخرى بعدما خدمته سنين طويلة وساعدته في بناء المنزل، الزميلة الأكاديمية التي عاد ابنها الدكتور من الخارج منذ سنين ولا يجد عملا، إلى "مريد" الشاب الخلوق والمؤمن جداً الذي انتحر بسبب ضيق الأحوال المعيشية، تلوث مياه نهر الليطاني، اللاجئة السورية ومشكلات ابنتها الأرملة مع أبناء عمها بعدما توفي زوجها، ثم الصديقة التي تزوجت ابنتها إلى الخليج ثم تطلقت. لم تكن تلك الحكايات هدفاً بحدِّ ذاتها، بل من أجل استكمال كتابة الفضاء العام المنشود للرواية، أضْفَتْ عليها الرّاوية سِمَة المُفارقَة بمعناها المثير للدّهشة والتأمل في نفس "شهد" كَرَائِيَةٍ صَدُوق إلى مآسٍ مجتمعية أكبر بكثير من مشكلتها مع الوظيفة، كما عرضتها على امتداد مسافة زمنية ومكانية واسعة بين ماضٍ وحاضر، لامست التاريخ وهي تضعُ يدها على صُور وقائعية سلبية، بالتذكُّر والتّداعي، والاسترجاع الذي سيطر جدّاً في بناء الرواية، مِمّا كان يتحول عن السياق السردي الذي يشحنُ الرواية بخصائص التسلسل والتراكم، إلى مواقف جانبية تحدُّ من تطوّر الشّخصيات الثانوية التي  استحضرتها الأم من أجل ابنتها "شهد" في الحكايات أعلاه. لا يعني ذلك انعدام حركية الحبكة وديناميتها في نسيج السرد، لكنها تنمو في مكانها بشكل مروحة شبكية عنكبوتية ولا تتقدم إلى الأمام، فالأحاديث وإن تعددت بين الأم وابنتها أو بين الأم ونساءٍ أُخَر، أو جاءت غاضبةً على الواقع الأليم المحلي، فإنّها تحمل معنًى واحداً لا غير، ربّما من أجل التأكيد على هول المشكلات التي تعصف بذلك الواقع. بهذا المعنى تداخلتْ مُعاناة الأمّ وشهد في اتجاه سيرذاتيّ مسدود الأفُق، حملَ ملامح واضحة عن جوانيّة الكاتبة التي خلعتْ نرجسيةً كبيرة على بطَلَتَيها اللّتين تصرفتا بمنطق "الأنا"، كما رسمتْ عبرهما كاملَ مناخ اللقطات والمشهديات السّيريَّة قديمها وحديثها وبتفاصيلها الدقيقة: الأم الخياطة الماهرة، لُبسها الحِجاب منذ الصغر، مشكلات أولادها الأسرية الخاصّة: سُكّر، تقية، ناضج، ساجد، عقل، سِنُّها في الثانية والثمانين، مرضُها، دخول المستشفى، زيارتها مع "شهد" السيدة زينب في سوريا، إلى جغرافيا الأماكن الواقعية: بيت شاما، زحلة، بعلبك، بيروت، واستلهام جمالي لتفاصيل الحياة اليومية بين الأم وابنتها: تجميع الحطب، الطبخ، الذهاب الى المدرسة، خَدَمَ جلُّهُ غضارة الرواية وفنيتها. بهذا المستوى كان الاستطراد إلى شؤون اجتماعية مُبعثرة، مُتفككة، لا أهمية لها في السياق السردي وهي تُدخِلُ القارئ في سكونية رتيبة يظنّ أنه سينهي قراءة الرواية بها، كان كلُّ ذلك أمراً مُتعمّداً اغتذى بحُسن التّدبير اللُّغَويّ لاظهار قيمة موضوعٍ  آخَر مركزيّ جداً هو نهاية "شهد" المفاجئة حدَّ الصّعقة والذهول. ما أوردناه لا نعدُّهُ حُكماً على الرواية، بل رصد إجرائي لعالَم "لميس حيدر" الرّوائي، واجتهاد دلالي في الغوص وراء ما قامَ به النصّ وأقامَهُ من إجابات عمّا ظلّتْ تطرحهُ  "شهد" من أسئلة الحياة: "لأيّ جهة تنتمين؟.. أسئلة أنهكني طرحها المتكرر على مسمعي. يا أخي أنا لبنانية. طائفتي العلم ومذهبي الكتاب. أما أبي فهو ذكريات الليالي الطوال بين الكتب، وأمي فجر حنين ينسكب شوقُ أمنيات حبره كلمات. وذريتي هي قراءة واعية للمدوَّن. لكم بنيت آمالي في أروقة كتب، كانت عناوينها وروداً تنثر أحلامها بين دفات الأفكار".