عواد علي.. متعة الكشف والتجلّي

ثقافة 2022/05/09
...

 إسماعيل نوري الربيعي
 
شغوفٌ بتدبّر المعاني، موغلٌ في التمعّن والتفحّص. موقنٌ بأهمية الوقوف العميق عند الفكرة، والعمل على تقليبها من جهاتها الأربع، بل لا يتورّع عن تدبّر أبعادا جديدة لها، يختلقها من خياله الخصب، ليدور في فلك متعة الكشف والتجلي. هكذا هو؛ عواد علي، المسرحي الذي آثر أن ينزع ثوب القراءة التقليدية، ويتوجه بكل ما لديه نحو ممارسة ترك الإتباعي والإحجام عن الكلاسيكي، واستنكار المدرسي وإعلان الاستياء حول ممارسات الرهط وشجب مواطنات الحاشية والعمل على ذرّ الراكد والسقيم. ساعٍ نحو الإعلاء من قيمة القراءة بوصفها شحذا عقليا يقوم على؛ الممانعة والمعارضة، والكفّ عن المرذول والمكرور، معلنا عن عدم قبوله للمتراكم والمتكّوم والمتكدّس والمتفشّي للمقولات السائدة. شاجبٌ للمجمل من عوالق الخطاب المتفاقم والمتعاظم والمتجمهر. حاشدٌ عدّته المفاهيمية للكشف عن مساوئ التآلب والالتئام والاحتشاد. شاجبٌ للإعجام، محتجٌ على التعقيد، معترضٌ على التلغيز والتعقيد، متطلعٌ نحو تصحيح مسار الصعوبات والمشكلات والعوائق. 
متوقفا عند حلحلة العقبات وزعزعة المآزق وتفكيك المعضلات. وهكذا تدبّر هذا القارئ والناقد والباحث بشغف العاشق تتبع مسار (المألوف واللا مألوف في المسرح العراقي). عبر استحضار العدة المنهجية الحداثية الصارمة، والمقولات الدقيقة المسندة إلى التوزيعة الاصطلاحية ذات القوام الإبستمولوجي الرصين. اشتغال لا يني يحلل ويشرح ويفسّر ويقوّم، بناءً على تثمير جدلية الذاتي والموضوعي، والعمل على ترصد أحوال العلاقة القائمة بين عناصر النص في تناميها وضمورها. في تعرّشها واستقرارها وتفككها وغيابها. 
عواد علي، قارئ يتطلع نحو التفرّس العميق في (شفرات الجسد؛ جدلية الحضور والغياب في المسرح)، باعتبار التوقف الدال عند وسائل التعبير في الخطاب المسرحي، مركزا على القناة الاتصالية التي يتم فيها الولوج إلى عقل المتلقي. تركيز يقوم على أهمية إمعان النظر في حركة جسد الممثل بوصفها المعين الرئيس في التعبير وصياغة المعاني وتوضيح المواقف من خلال؛ الندهة والصوت والهمهمة والحركة والعلامة والإيماءة والإشارة. إنه القوام المستند إلى التلميح والتضمين والاقتراح، والمجمل من المكوّنات التي يزخر بها نظام التشفير، والطريقة التي يتم استثمارها من قبل المخرج والممثل وفريق العمل في فضاء العرض المسرحي.
كائنٌ مسكونٌ بترصّد العلامات والرموز، ساعٍ بكل ما فيه نحو التفسير والايضاح والإبانة، مستغرقٌ في الإظهار والإعراب والتبيين، موغلٌ بالتوضيح والجلاء والشرح، متطلعٌ نحو ممارسة تقمّصاته التي لا تبارحه في في التحليل الإباحة والإجازة والشرح والتوضيح. عواد علي كائن مؤمن بمسرحة العالم، بطريقة لا يمكن توقعها أو رسم حدود لها. تسكنه أرواح سوفيكليس وشكسبير وغوته وبريخت وقاسم محمد وسامي عبد الحميد والجمع الوافر من المبدعين الذين أسهموا في بناء ذائقته المسرحية. يسرح بناظريه نحو زاوية قصية، يجلس متصنّعا الاسترخاء، في حين لا ينفك كل ما فيه بالتوفّز والتحفّز. وبعد أن يضع الساق على الساق، لينزلها ثم يعود مكررا لها، ليبدأ تركيز ناظريه في عينيك مباشرة، مفتتحا جولة السؤال الذي يعقبه آخر، حول المعنى وتجليات العلامات والرموز، وجدوى هذا العالم. 
مسرحيّ، روائيّ، ناقد وصحفي. هو كل ذلك من دون إخلال أو تفريط. ما يهمه يقوم على خلق المعنى، ومن هذا فإنه ساعٍ للاشتغال في الفضاء العام. إذ التوزع في الاهتمامات والاشتغال والتطلع نحو القراءة والتفحّص والتمعّن. يكتب، (الأغنية العراقية من حزن الأسلاف إلى عنف الأحفاد). ما يتعلق بعواد علي لا يقف عند قراءة حال الأغنية ومآلها، بقدر ما تقوم القراءة على محاولة تلمس المستوى الجوهري من اللغة، التي يستبان فيها الإيقاع والغاية والهدف وتقمّصات اللاشعور التي تتمايز لدى الكاتب، والتي يتم من خلالها التعبير والإفصاح عن مكنون الحال، الذي لا يتعالق عند موضوع بعينه حيث (الأغنية العراقية)، بقدر ما تتجلى الدوافع العلاماتية في ملامسة المكبوت والمسكوت عنه. من خلال محاولات متعددة، لا محاولة واحدة تقوم على إسقاط الفرض. وهكذا تراه يشمّر عن ساعديه في توظيف الرمزي من هياكل اللغة وقواعدها، والتطلع نحو صياغة تراكيب فنية في غاية البراعة والدقة والإحكام. حيث القراءة الثقافية الساعية نحو استجلاء التاريخي والهوياتي والسوسيو- ثقافي؛ (كما اتسعت رقعة الأغاني التي تمجّد أو تتغزّل بالعنف، وكأنّه صورة للجمال، في مزيج مخيف على المستويين العاطفي والمجتمعي، فصار الرصاص، حسبما يكتب أحد الكتّاب، رفيقا ملازما لمؤلفي الأغاني وملحنيها ومؤديها). وها هو التحليل الدلائلي يحضر بجلاء من خلال الكشف عن العلاماتي داخل منظومة الرمزي. من خلال تثمير اللغة والعمل على تكثيف الإيقاع فيها. باسترسال وتكثيف واضحين. لغة تتلمس الواقع وتغور في صلب الذاتي، لتجعل من النص وقد تماهى مع القارئ. تعبيرٌ يعلي من شأن الحياة، حيث الاستحضار العميق والدال للتاريخي والثقافي والاجتماعي واليومي. عواد علي ناقد متمرّس يمتلك القدرة على جعل القارئ متفاعلا في دوامة (التزامن والتعاقب) من دون خلط أو انكفاء أو التياث.