لا تبعدوا روح الشعب

ثقافة 2022/05/09
...

 ياسين طه حافظ
اعتدنا على مخاطبة الفرد لإخباره، أو لنكشف له ما رأينا حدثاً أو معنى. هذا طبيعي لأننا لا نرى الشيء دائماً جمعاً ولا قدرة لنا، ناساً عاديين، على أكثر من ذلك. يختلف الحال إن كنا خطباء أو مؤلفين أو منشدين، ولهذا ومن ذلك، حديثنا عن المنجز الأدبي ذي الصفة التاريخية والشعبية الأوسع وبسبب من ذلك أيضاً كانت تحليلاتنا وكانت رؤيتنا للمنجزات الكبيرة، نؤكد أكثر على المنجزات ونهتم بأبطالها أفراداً. وفي قراءتنا من بعد، يكون المنجز الشعبي قد تحول من الحياة الى الخمود والسكون، ومن الفعل الحي الى ما يروى عنه وما يقال.
وحدث ضرر آخر، أو مزيد من الضُر، حين قرأنا روح الأدب الملحمي القديم، في غلاف ميثولوجي، خرافي. 
ناسين أنه سجل لذكريات الشعب وكشوفات لأحداثه التاريخية.
وحين أفردنا شخصيات الأعمال الكبيرة وأسبغنا عليها أحكامنا، أكدنا فردياتها وأبعدناها عن الروح الجمعي الذي انبثقت فيه. 
وحدث إبعاد آخر، حين نسينا أن هناك من الأعمال الملحميَّة الكبيرة إرثاً شفاهياً سبقه أو تلاه.
ارتكبنا خطأً آخر حين فرضنا عزلةً أخرى بقراءاتنا وكتاباتنا التي تستخلص الفردية من حياتها العامة، من جوها ومحيطها وعلائقها ومجمل الأحوال التي انبثقت منها ليكون البطل فيها أمامنا فرداً بطلاً نخاطبه بلغة عصرنا وبثقافتنا.
من نراه أو من استخلصناه، ليس هو. هو ذلك الذي كان ضمن جوه الاجتماعي وضمن محيطه التاريخي وبيئته التاريخية وحيث كانت تعيش كل مفردات الملحمة.
المطلوب، خلاف ذلك. أعني إبعاد ما علق بجوهر العمل وما أضافت له مصالح الأزمنة وما أبعدت أو تغافلت عنه بقصد حرف المعنى وإعادة توجيه التأثير أو الفحوى. فليس صواباً الحكم على أعمال متعددة ومختلفة بحكم واحد كاصطلاح «كلاسك» مثلاً.
الدراسات واكتشاف سلسلة كاملة من الآثار الملحمية ووجودها بأشكال مختلفة يجعل صفة كلاسك تصنيفية، يجعلها خيمة تضع الجميع تحت حكمها أو في ظلها وتحت فهمها. ولا أرى هذه الصفة إلا من جانبها التاريخي لا التقني ولا التطوري ولا الدلالي ولا ما وراءها من روح شعبي خاص وبيئة اجتماعية نبع العمل أو الملحمة
منها.
إنَّ الملاحم التي تكوَّنت عند قدماء الإغريق والهنود والشفاهيات الشرقية في مجتمع الأقنان وما يشبه الأقنان، أعني من مجتمعات محكومة بالعبودية، هذه لها ميزاتها وانتماءاتها أو كانت في مراحل كفاح وعذابات المجتمعات التي ولدت منها.
إنَّ الإلياذة والأوديسة والمهابهارتا والراميانا تتميز جذرياً عن تلك الملاحم البعيدة التي انتجها الإقطاع في غرب أوروبا. 
هناك الساغا الايرلندية. والساغات أو قصائد الساغا الاسكندنافية والبيوولف الانكلوسكسونية. وهناك أشكال ملحميَّة أنتجها الإقطاع الرعوي في آسيا الوسطى.
وهناك أيضاً الصيحات الفردية، المقطوعات الموزعة بين البكائيات العراقية وفي كثيرٍ من الشرق وهي بكائيات واحتجاجات كثيرة انبثقت من جور الطبيعة الشحيحة والإقطاع المُهين. 
إنَّ تجريد الملاحم من صفاتها الدلالية ذوات الصلات بمنشئها وبالمجتمعات التي ولدت منها ومن ظروفها، يجرّد هذه من مزايا أخرى أساسية. ما يؤكد عليه النقد مطلوب ومحترم ولكنه يكسو القديم ثياباً جديدة ويبعده عن مستنقعاته وصحاريه وعن عذابات الإبحار وشراسات ومخاطر البراري. وهنا يخسر الشعب، شعب زمانها حضوره. هذه مصادرة غير مقبولة في الدرس الأدبي.
المحاولات المحترمة التي جرت لفهم هذه الملاحم بمزج الميثولوجيا والخرافة، مكملات أساسية للعمل الملحمي،  هو مزج لظاهر العمل. 
جوهر العمل جوهر كفاحي، إنساني يتوقف وضوحه على طريقتنا في النظر الى العمل. وغالباً ما يحدث هذا الخلط حين نتحدث عن العمل كأنّه بعض من ممتلكات عصرنا. 
ناسين عائدية انبثاقه الأولى وظروف إنتاجه.
يمكن أن تسند دعوانا حقيقةُ أن عدداً من الروايات الشفاهية التاريخية التي تتحدث عن ماضي الشعب، من الالياذة الى البطوليات الروسية والصينية حول الغزو ومواجهاتهم له. تطورت هذه من تلك الملاحم الشعبية الضائعة أو المجهولة. 
البطولة هنا ليست ترفاً نقدياً قدر ما هي دلالة معاناة نضالية ضد ظروف وبيئة وانتصار على أو انكسار من، مواجهات صعبة. التاريخ في جميعها حاضر والبطولة الإنسانية، انتصاراً أو تراجيديا حاضرة أيضاً. والإنسان هناك يحضر بكل قامته وزمنه أمامنا. ففي العمل إدانة لظروف سيئة ولعالم شرس قاومه الإنسان اقتحاماً أو مواجهات عسيرة موجعة أو انحساراً، تاركاً للبشرية تراجيديات لا يرجو منها إلا قراءة سليمة جيدة لما كان وحسّاً بعذابات البشرية أو الأفراد وانتصاراتهم أو
أحزانهم.
للنقد أن يتلذذ بالتعبير البارع والمبهج وبتوهّج الكلمات، له ذلك ولكن لا ننشغل عن  المآسي البشرية وراء النص ومحنة الإنسان الكامنة وراء الكلمات. الأهم من كل جماليات التعبير، التي نحبها، هي عذابات الأفراد، رموز الجماعات وهم يحاولون، ما استطاعوا في ظروف الموت أو التهديد، أن يبقوا أحياء.
بقي أن أقول: حق تصوير أبطال الملاحم الذين نمجدهم، بأنهم الأبطال «المثقفين» لتلك العصور، هو وصف كريم طيب ولكنه يفقدهم حقيقتهم الأكثر جوهرية. إنهم حملة روح الشعب قبل كل شيء. وواحدهم رمز لإنسانية متميزة كانت تواجه الحصار أو
الموت. 
ما يهمنا أساساً هو أن نكون مع العمل في بيئته الساخنة، لا متفرجين أو معلِّقين عليه. شخوص الملاحم ممثلو بطولات المسيرة البشرية في كفاحها ضد الطبيعة الخاملة او السيئة القاتلة. إنهم سلفنا وعذاباتنا اليوم بعض من ذلك العذاب.