السرد غير الواقعي في {فقهاء الظلام}

ثقافة 2022/05/09
...

 د. نادية هناوي
 
تعد قصة (المعطف) من أوائل القصص التي انتهجت السرد غير الواقعي وفيها استعمل نيقولاي جوجول (1809ـ  1852) ساردا موضوعيا، يحكي بضمير الغائب قصة البطل اكاكي اكاكيفتش الموظف العمومي البسيط الذي عاش حياة رتيبة، مؤديا عمله ينسخ كتب الآخرين، فإنَّ لم يجد ما يستدعي النسخ فإنَّه ينسخ لنفسه، محققا رغبته الخاصة في توكيد ذاته من خلال حرصه الغريب على إدامة معطفه. وظل بسبب هذا الحرص يردد مع نفسه (اتركوني وشأني لماذا تؤذونني.. أنا أخوكم) حتى انتهى الأمر به إلى الموت. وبموت اكاكيفتش يحصل تغير في مسار السرد فيتحول من الواقعية إلى غير الواقعية وقد صار اكاكي اكاكيفتش شبحا يخطف المعاطف مثيراً الرعب بين الناس. ويدلل تدخل السارد - مفكراً بمدى صحة ما يرويه عن اكاكيفتش الميت - على أنه ما يزال ملتزما ببنود البرتوكول السردي فنياً، لكنه على المستوى الفكري يتطامن مع الجثة وهو يصف أفعالها وينقل أقوالها سائرا بالحبكة القصصية بطريقة فنية معتادة نحو الانفراج الذي اعتمد فيه تقانة المفارقة، فشبح اكاكي لم يكن له، بل لشخص آخر أطول منه وله شارب ضخم وشوهد وهو يمشي باتجاه الجسر ثم ذاب في ظلمة الليل وأنه ما يزال (يظهر نفسه في أماكن مختلفة من المدينة). وإذا كان أدبنا العربي القديم قد عرف السرد غير الواقعي في الحكايات الخرافية والقصص الشعبية وقصص الحيوان، فإن السرد العربي الحديث والمعاصر لم يهجره بل ظل مستمرا عليه  في القص الشعبي وقصص الاطفال وروايات الخيال العلمي. ولقد عمد توفيق الحكيم إلى تجريب السرد غير الواقعي الذي سماه (اللاواقعية الشعبية الفكرية) في مسرحيته (يا طالع الشجرة) التي كتبها عام 1962 قائلاً في مقدمتها (إذا كانت السمة الظاهرة في الفن الحديث من تصوير ونحت ومسرح هي التعبير عن الواقع بغير الواقع والالتجاء الى اللامعقول واللامنطقي ..فإن كل ذلك قد عرفه فناننا القديم والشعبي).ومن التجارب الروائية في كتابة السرد غير الواقعي تجربة الكاتب سليم بركات الذي مارس في روايته (فقهاء الظلام) التعامل مع الزمان بطريقة غير واقعية فجعله يجري بسرعة فائقة تتعدى قانون النمو البايولوجي الطبيعي. وتبدأ الرواية وقد علم الأب الملا بيناف ابن كوجري أن زوجته أنجبت وليداً سيتحول بعد ساعتين إلى شاب اسمه بيكاس يحل ضيفا جديدا على الأسرة المكونة من عدة أبناء (ابني بيكاس الذي ولد فجرا ينمو في الساعة الواحدة ما يقارب ثلاث سنين مشيئة الله وابني يريد أن يتزوج .. لا أريد أسئلة كثيرة .. أريدكما أن تستسلما لأكذوبة)، ويردف بيكاس بالقول: (لف لي سيجارة يا أبي) ويركز السارد الموضوعي على هذا الخرق لبايولوجية النمو من خلال إضفاء الأوصاف نفسها التي كانت للوليد على الشاب (وردي البشرة بشعر أسود كثيف) ومضيفا إليها (لحية منبثة في مناطق الوجه من دون أن تتصل تماما يطل من الباب مظللا عينيه بيده ليتقي وهج الثلج وقد شد بالأخرى على غطاء سميك لف من جسمه. قصير القامة لكن يتناسق ربما يكون في السابعة والعشرين أو الثلاثين).ويسهم استعمال السارد الموضوعي للمونولوج المروي في إدامة منطقية ما يجري من أحداث غير واقعية وبصوت الشخصية وهي تعبر عن عالمها الداخلي بنفسها، مما يجعل المسرود له مسايرا السارد ومتوافقا معه واثقا من منطقية ما يحكيه بلا مشاكسة أو مناكدة. ومثلما استعمل السارد الاستبطان والمونولوج المروي في حدث بيكاس، يستعملهما في هذه القصة أيضا وبالمقصدية نفسها أعني طمأنة المسرود له واستباق أية ردة فعل قد تصدر عنه إزاء هذا الخرق السردي، فيقول على لسان الحيمن: (المسألة أن اشتغل على نفسي، يقول الحيوان لو لم أكن حيوانا لكنت في أي مكان إلا هنا) أو قوله: (لديَّ ذاكرتي واندفاعي، فأنا الحر أعبر الجثث بحمى لا قانون فيها. الحمى هي الحرية). وإذا كان فعل الخرق السردي يجري في الحدث الأول على مستوى الرابطة الأسرية، فإنَّه في هذه القصة يجري على مستوى رابطة الدم داخل الرحم ثم يختلط المستويان بشكل لا واقعي فترد جريمة قتل الشاب جنبا إلى جنب مشقة عبور الحيمن الحدود متجاوزا ظلام النفق. حتى إذا اصطدم بـ (درع معدني كأكمل ما يكون مزخرف في فوضى تقارب الإتقان الصارم)، وحين يتكوم رأس الحيمن على ذيله، تكون الحبكة قد بلغت ذروتها.وتكثر تدخلات السارد، وبها يقطع الطريق على المسرود له، كي لا يشاكسه ولا ينافسه، بل يكون مأخوذا بشروحاته التي فيها يحلل لا واقعية ما يجري من أحداث، ومن تلك التدخلات أو تدخله ملخصا الرحلة العجيبة التي انتهت ببلوغ الحيمن موطنه. ولو ترك السارد هذه التدخلات ولم يعبأ بالمسرود له لأخذ المحكي السردي خطا اليغوريا، ولكانت الرواية من السرد العجائبي. ولعل أوضح دليل على أن هذه الرواية تنتهي وقد تحول السرد غير الواقعي إلى سرد واقعي، هو نهاية بيكاس نهاية منطقية بعد أن هرم فضعفت قدراته ومن ثم استسلم للموت لكن المفارقة التي تُبقي المحكي السردي تحت طائلة الخرق أن بيكاس سيصير شبحاً، ونحوه تتجه الأسرة؛ الأب والأم والابن الأكبر كروزو عبر مشهد درامي لا يخلو من سخرية وفيه يتقدم الجميع بخطى أقرب إلى الهرولة صوب بيكاس الذي ينتظرهم، ولكن (لما بلغوه لم يفتح الرجل الغائص في السنين ذراعيه لهم بل استدار ومضى فتبعوه من دون همس إلى الجهة المعلومة بتدبير غير معلوم) وبهذا تتوكد واقعية هذه الخروقات غير الواقعية، فالإنسان مهما تمرَّد وتعملق وشرَّق وغرَّب، يظل منصاعا لإرادة غيبية ومسيراً بفعل أقدار ترسم له حياته بدءا من لحظة الولادة إلى لحظة توجهه نحو حتفه وما بعد مماته.  وكلما نتقدم في الرواية تزداد فاعلية السارد الموضوعي في التقاط التفاصيل التي تضفي على الحدث الخارق لقوانين الطبيعة مزيدا من الواقعية بما يجعل المسرود له متابعا السارد من جهة، والسارد مركزيا فيما يحكيه من خوارق تبدو واقعية من جهة أخرى. نظرا لدقة التفاصيل المحكية من قبيل التحرر من سيطرة البشر والعمل بمساواة لا تمييز فيها
ولا استغلال.