مراجعة لسانيَّة

ثقافة 2022/05/09
...

 خالد خليل هويدي 
 
يعلم المتابع جيدًا أن الدكتور إبراهيم السامرائي (1923 - 2001) قد تكوّن معرفيًا في السوربون، في أثناء دراسته هناك، وقد تخصص في الفيلولوجيا المقارنة، متحصلاً فيها على درجة الدكتوراه في دراسة اللغات السامية سنة 1956. 
وقد كتب أطروحته عن الجموع في القرآن الكريم دراسة سامية، وتتلمذ على يد كبار المستشرقين اللغويين، من أمثال جان كانتينيو وريجيس بلاشر. 
وقد هيَّأ له هذا التكوين لغة ثانية هي الفرنسية والإنكليزية، وهو أمر من المفترض أنه يُمكّنه من الاطلاع على تجارب وثقافات ورؤى لغوية متعددة.وبعد عودته إلى العراق عمل أستاذًا في آداب بغداد، وألّف عددًا من الكتب، منها كتاباه المهمان: التوزيع اللغوي الجغرافي في العراق وفقه اللغة المقارن، فضلاً عن عدد من الكتب والأبحاث. 
ولعلّ من البديهيات البحثية أن من ينتمي معرفيًا إلى مدرسة لغوية متخصصة يعمد إلى نشر أفكار هذه المدرسة في كتابات وأبحاث متعددة، ويبقى مستمرًا في ملاحقة أهم التحديثات التي قد تطرأ على المباني المعرفية للمنهج الذي تنطلق منه نظريته، بل قد تنعكس مبادئ النظرية وأفكارها على توجهاته الفكرية، ورؤيته للعالم، لأن هذا الإيمان والتبني يسمح له بتكوين جيل يعكس أفكار الأستاذ، جيلٌ يعمد إلى تطوير النظرية واختبار صحة فرضياتها، وبيان مدى فاعليتها، من طريق التطبيق على نماذج وحقول جديدة. 
السؤال الابستمولوجي هنا هل تمكّن الدكتور إبراهيم السامرائي من مواكبة تحديثات النظرية اللغوية التي آمن بها؟ هل تمكّن من خلق جيل من الباحثين تبنوا اللغويات المقارنة في العراق؟، وهل استطاع تشكيل مدرسة لغوية مختلفة، تتبنى مباني النظرية في آداب بغداد، أو غيرها من الجامعات العراقية؟. 
ما أعتقده أن الدكتور السامرائي لم يحالفه الحظّ في تحقيق ما تقدّم، ذلك أنه لم يكن مسايراً ومتابعًا للرؤى اللغوية التي تلقاها في السوربون، ولم يؤسس لمدرسة لغوية مقارنة متخصصة، من طريق عدد من الطلبة العراقيين، الذين درّسهم أو أشرف عليهم. 
إنّ تخلّي الباحث عن النظرية لا يسمح له بإعطاء رؤى مختلفة، وإن تنقله في أكثر من نظرية لا يكسبه استمرارية أو يساعده في تكوين جيل من الباحثين أو مدرسة تضمن لأفكاره الديمومة والانتشار.  لقد كتب السامرائي عددًا من المؤلفات التي كانت أشبه بمحاكاة لما يكتبه الدكتور مهدي المخزومي، وهما العالمان المتجايلان. فبعد أن طرح المخزومي مشروعه التيسيري في كتابه „في النحو العربي/ نقدٌ وتوجيه“ في العام 1964 نشر السامرائي مؤلّفه „النحو العربي نقدٌ وبناء“(لاحظ التشابه في العنوان). 
وعندما ألّف المخزومي كتابه „مدرسة بغداد“ في العام 1974 شرع السامرائي بتأليف كتابه „المدارس النحوية بين الأسطورة والواقع“، في العام 1987، وهو ردٌّ على المخزومي في عدد من أفكاره المتعلقة بنشأة المدارس النحوية. 
على الرغم من أهمية هذه التآليف التي سطّرها السامرائي في الدرس النحوي، لكنها مؤشرٌ على تخّلي الرجل عن النظرية التي تلقّى مبادئها في ينابيعها الأولى، وهو تخلٍّ حرمنا من فرصة التأسيس لدرس لغوي فيلولوجي عراقي تكون منطلقه جامعة بغداد. وهو أمرٌ يختلف تمامًا عما نجده في كتابات لغويين عرب آخرين، مثل الدكتور تمام حسّان، الذي تبنّى اللسانيات الوصفية تنظيرًا وتطبيقًا، وأسهم في صياغة مرحلة تاريخية مهمة في الدرس اللغوي العربي الحديث. 
وكذلك الحال مع الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري، الذي لاحق اللسانيات التوليدية، في مختلف تحولاتها، تنظيرًا وتطبيقًا وترجمة، وخلق أجيالًا من الباحثين المهمين، الذين أغنوا الجامعة المغربية بتآليفهم ورؤاهم.