أثر الصورة الشعرية في جاذبيَّة الخطاب

ثقافة 2022/05/09
...

 أحمد الشطري
 
يبحث النص الشعري بخطاباته المتنوعة عما يمكن أن يؤثر في المتلقي، ويجعله ينجذب للنص ويتفاعل مع ما ينطوي عليه من أفكار، وهو لهذا يستخدم كل ما متاح من عوامل جاذبة توطد العلاقة بينه وبين المتلقي، وكلما أتقن منتج النص استخدام تلك العوامل أسهم ذلك في توسيع مساحة التلقي وديمومة الحياة لنصه، ولعل من بين أهم العناصر أو العوامل التي تمنح النص القوة الجاذبة والمؤثرة في سعة مجال التلقي و إدامة العلاقة بينه وبين المتلقين زمكانيا، هي الصورة الشعرية، وسواء كانت تلك الصورة تنطوي على معنى كبير ومهم، أم لا، فإن أهم ما يجعل منها ذات تأثير فاعل في المتلقي هو الجانب التشكيلي لها، إن تحقق المنحى الجمالي في البناء الصوري لا يرتبط بجمالية المعنى أو قبحه، بسبب أن جمالية البناء ثابت، بينما جمالية وقبح المعنى في كثير من الأحيان يكون متغيرا، وهذا التغير مرتبط بتغير المفاهيم والأذواق لدى المجتمعات أو لدى المتلقين، فما كان جميلا في عصر قد يكون قبيحا في عصر آخر، وما كان قبيحا قد يكون جميلا، وهذا التغير في المفاهيم قد لا يكون زمانيا فقط بل يكون مكانيا أيضا، ومن هنا ينبغي أن نتعامل مع جماليات البناء قبل النظر في جمالية المعنى.
 ولعلنا في ذلك ننسجم نوعا ما مع  تقسيم ابن قتيبة للشعر بأنَّ منه ما حسن لفظه وجاد معناه، ومنه ما حسن لفظه وقصر معناه، غير أننا نختلف معه في طريقة تعامله مع بعض الأمثلة التي أوردها، ونرى أن جمال المعنى وقبحه ليس من حيث (سذاجته) كما وصفها، بل من حيث النواحي الأخرى التي تمس جمالية القيم، ثم أن تحليل الصورة إلى عناصرها الأولية التي تتركب منها لا يتم يهذه الكيفية التي اتبعها في تحليله للأبيات المشهورة التي تقول: (وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنَىً كُلَّ حَاجَةٍ / وَمَسَّحَ بِالْأَرْكَانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ/ وَشُدَّتْ عَلَى حُدْبِ اَلْمَهَارِي رَحَّالَنَا/ وَلَا يَنْظُرُ اَلْغَادِيَ اَلَّذِي هُوَ رَائِحُم أَخْذَنَا بِأَطْرَافِ اَلْأَحَادِيثِ بَيْنَنا / وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ اَلْمَطِيِّ اَلْأَبَاطَحُ). 
والتي قام بنثرها بشكل لا يليق بجمالها وجمال معناها بقوله: «ولما قطعنا أيام منى، واستلمنا الاركان، وعالينا إبلنا الانضاء، ومضى الناس لا ينتظر الغادي منهم الرائح، ابتدأنا في الحديث وسارت المطي في الأبطح».
إنّ تحليل النص بهذه الكيفية لا شك أنّه سيسلب منه جمالياته التي ينطوي عليها، تلك الجماليات التي تتفاعل معها القلوب من دون أن تنتظر تفاعلات العقل الباحث عن آفاق أخرى، وغايات مختلفة قد يجدها وقد
لا يجدها.
وكان تحليل ابن جني وقدامة أكثر احقاقا لجمالية هذه الأبيات من ناحية المعنى، ونحن هنا لا نريد الخوض في الحديث عن هذه الأبيات، وإنّما أتينا بها كمثل لجمالية الصورة، بغض النظر عما يراه المتلقي من جمالية المعنى.
إنّ النظر إلى الشعر على إنّه مصدرا للحكمة والموضوعات الفلسفية والاجتماعية والسياسية، هي نظرة قاصرة، تشبه نظرة المزارع الذي لا يرى في الزهور نباتا ذا فائدة؛ لأنّه لن يملأ معدته، ولن يكسو عري جسده؛ كونهُ يربط أهمية الشيء بحاجته المادية، وليس المعنوية، وليس معنى ذلك أننا نرى أنّ جمال الصورة ممكن أن يتحقق من دون جمال المعنى، أو أنّ المعنى لا أهمية له أو ضرورة ما دامت جمالية الألفاظ متحققة، ولكن نقول أنّه لا يجب حصر المعنى بجوانب محددة، ومقصورة على المواضيع التي تصنف بأنها ذات أهمية عالية؛ لأنّ الحياة مركبة من أشياء متفاوتة في الأهمية، ولم تقتصر على المطالب العظمى، وكل شيء فيها يستحق التعبير عنه والتفاعل معه بغض النظر عن حجم أهميته، وخطره.
فالأشياء التي تُرى قليلة الأهمية لدى فرد أو جماعة قد تكون ذات أهمية كبيرة عند آخرين، مثلما تشكله نباتات الزهور من أهمية لدى غير ذلك المزارع الذي يبحث عن المردود المادي.  
ولننظر لتلك الأبيات وما انطوت عليه من قوة جذب شغلت النقاد قديما وحديثا في تحليلها وبيان جمالياتها، وكل ذلك لم يكن لأجل ما تحمله من معنى، بل بما تحمله من صورة مدهشة فاقت في قوة جذبها العديد من الأبيات التي حُمّلت بمعان كبرى، ولكنها لم تأت في بناء صوري مثلما جاء هذه الأبيات.