«ميدوزا» الإغواء والحجر

ثقافة 2022/05/11
...

 حميد المختار
 
هبوطاً من قمة (أوليمبوس) وآلهة هذا الجبل مروراً بالعمالقة وآلهة الأنهار والحوريَّات، بعيداً عن الجبابرة وقريباً جداً من أنصاف الآلهة، وُلدت «ميدوزا» الجمال والعفة كآلهة يونانية عذراء وَصلت نقاوتها إلى كل رجل يبحث عن الجمال ومِثْل كل حكاية تبدأ بسلاسة القص لتصل إلى ذروة البشاعة والظلم، فتُغتَصب «ميدوزا» من قِبَل إله البحر «بوسيدون» وحين علمت آلهة الحكمة والحرب «أثينا» بذلك حكمت على «ميدوزا» بتحويلها من أنثى جميلة إلى مخلوق بشع، إذ حَوّلت شعرها وخصلاته المتماوجة إلى ثعابين ملتوية، وأصبح جلدها أخضر اللون وعيناها ثاقبتين، وصار كل من ينظر إليها يتحول إلى تمثال من حجر ..
فتحول الجمال إلى بشاعة ورعب يعم اليونان القديمة ومن ذلك العهد -عهد التحولات الكبرى- تغيرت أنماط الصور الكلاسيكية للمرأة، مُتمظهرة بتَمَظهرات متضاربة، نظراً لقسوة ما كان يحيط بها وما يُكتب عنها ويُؤوَّل من صور نمطيَّة تأصَّلت في المِخيال الذكوري، وتحولت إلى مَيدان تَصوّرات جديدة وَضعت تاريخاً مُفارقاً يتضاد مع كل رأي يحاول إنصاف هذا الكائن الشَّفاف..
لهذا نرى الأدب اليوناني والشِّعر من كتاب (أنساب الآلهة) وغيره يؤرخ للرجال الأحرار والأصحَّاء من كل مرض أو تعب أو جهد حتى ظهرت “باندورا”، التي جلبت معها الشرور والشقاء للعالم، ومنها ظهر جنس خبيث وقبائل من النساء ومصدر عظيم للأذى، كما يؤرخ الشاعر اليوناني “هزيود”. و”باندورا” تعني جميع العطايا أو كل الهبات، وهي (حواء) في الأساطير اليونانية، ولهذا يُقال إنها أول امرأة وُجدت على الأرض طبقاً للفكر اليوناني، خُلقت بأمر من أب الآلهة والبشر “زيوس”، وتم خلقها من الماء والتراب، ومُنحت العديد من المزايا مثل الجمال والاقناع وعزف الموسيقى، وسبب وصف “باندورا” بأنّها أصل الشرور، لأنها كانت السبب في فتح الصندوق المغلق الذي أهداه لها “زيوس” وحذرها من فتحه..ومنذ ذلك التاريخ صارت المرأة وهي تعيش ظرفها الصعب -موجة ضائعة- في بحر مضطرب مظلم، عندما ترتفع الموجة تشعر المرأة بأن لديها كثيراً من الحب، وحين تنخفض ترتفع مناسيب الفراغ للكيان الداخلي، فتحس بحاجتها للحب والعطف والحنان، وسيكون نزولها أشبه بالنزول إلى بئر مظلمة، وحال هبوطها في تلك البئر تصبح غريقة الوعي في ذاتها اللاواعية، وهنا سيكون التطابق تاماً مع نزول عشتار إلى العالم السفلي..
يقول طاغور: “إنَّ الله حين أراد أن يخلق حواء من آدم، لم يخلقها من عظام رجليه حتى لا يدوسها، ولا من عظام رأسه حتى لا تدوسه، وإنما خلقها من أحد أضلاعه لتكون مساوية له وقريبة من قلبه”. 
معظم الديانات القديمة آمنت بأسطورة الخَلْق من الضّلع إلّا الإسلام الذي قال إنَّ الذّكر والأنثى خُلقا من نفْسٍ واحدة، بينما (اليهود) هم أول من صدّروا للجزيرة العربيّة احتقار المرأة، والنظر إليها على أنّها رأس كل بلاء وشر في هذا الكون، وقد أسهمت الكثير من الديانات مع اليهوديَّة في تراجع مكانة المرأة العالية بعد أن كانت ذات سيادة أوصلها إلى التفوق على الرَّجُل، بل وصارت آلهة تُعبَد عند أمم سبقت اليهودية بكثير من الزمن، وظلت بقايا هذا (التّأْليه للنساء) عند العرب حتى ظهور الإسلام، إذْ إنّ (اللّات والعُزى ومَناة ونائِلة) هي أسماء نساء عبدهن الناس في الماضي السحيق، ثم نحتوا لهنَّ تماثيل ليستمروا في تقديسهن.. يقول ويل ديورانت: “ليست أهمية عشتار مقتصرة على أنها شبيهةٌ بـ (إيزيس) إلهة المصريين وهي لم تكن إلهة جميلة فقط بل كانت فوق ذلك هي الآلهة الرحيمة التي تعطف على الأمومة الولود، والموحية الخفية بخصب الأرض”.
ومن هنا اتزنت المعادلة التي عادت لترفع مكانة المرأة من جديد، وتَخلق لها أسماء مبهرة في القصص والأساطير، كوفاء (بينيلوبي لزوجها يوليسيس) وثباتها في وجه الخُطّاب، وقوة وصلابة شهرزاد وهي تواجه الموت بالحكايا، ومن هنا سيقف أفلاطون عاجزاً عن إثبات نظريته بأنَّ “جنس الأنثى خُلق من أنْفُسِ الرجال الشريرة”، وستكون هناك نظريات أخرى تؤكد مكانة -الأنثى العشتاريَّة- التي منحت الحياة حبَّاً وجمالاً وحكمة.