ما قبل (الوجود والعدم).. سارتر الرافض للديكارتيّة والنقديَّة الكانطيَّة

ثقافة 2022/05/11
...

 د. رسول محمد رسول
يتبادر السؤال دائماً عن المقال الأول أو الكتاب الأول الذي كتبه أي فيلسوف؟، ففي بدايات الأشياء ثمة لذة يستبطن رحاها المتلقي كرغبة حقيقيّة عنده لمعرفة الكيفية التي بدأ بها المبدعون حياتهم الفكرية أو الفلسفية. ولقد ظل الكثير من الفلاسفة يفكرون في الوجود، ويضعون مقالاتهم ودراساتهم في شأنه؛ بل ويرصفون مؤلفاتهم على رفوف مكتباتهم وفي أدراج مكاتبهم الخاصة بهم ولم تعلن إلى المتلقي إلا في أواخر حياتهم أو بعد مماتهم، لكن المعتاد أن يبادر الفيلسوف لإيصال ما يرد قوله فور الانتهاء من كتابته، في حين فضل بعض الفلاسفة تصريف خطاباتهم إلى المتلقي على شكل محاضرات مشفة. 
 
وكان جان بول سارتر، وهو فيلسوف الوجودية الكبير من النوع الذي يحبَّذ إيصال أفكاره إلى المتلقي فور الانتهاء من كتابتها، وبدا أنه كان يبحثُ عن فضائه الذي يظهر فيه أمام المجتمع بوصفه فيلسوفاً وجودياً اختار أن يكون ضمن المدرسة الوجودية الثانية التي اقتربت من عالَم الإنسان بعيداً عن وصفات الثيولوجيا الجاهزة التي تأثرت بها المدرسة الوجودية الأولى تلك التي بدأها مارتن هيدغر، وواصلها كارل ياسبرز، منذ مطالع القرن
العشرين.وإذا كان مارتن هيدغر قد بدأ تأمّلاته في الوجود على نحو لا يخلو من اعتماد منظومة مفاهيمية ذات دلائل أنطولوجية، فإنَّ سارتر بدأ كتاباته باحثاً عن واقعيّة الوجود الملموسة ولكن من خلال فلاسفة ساروا في هذا النهج؛ فقد كتب أولاً عن «النظرية الواقعية للقانون عند ديوي»، وأتبعه بنص قصصي عنوانهُ «أسطور الحقيقة»، وبعد ذلك كتب وبين الأعوام 1931 إلى 1935 دراسته (محاولة في تعالي الأنا موجود) التي ظهرت منشورة، لأول مرّة، في مجلة (دراسات فلسفية) الناطقة بالفرنسية عام 1936، وظهر مُترجماً إلى العربية في عام 1982، ونقله إلى العربية حسن حنفي، وصدر تحت عنوان (تعالي الأنا موجود) عن دار التنوير في بيروت – والواضح أن سارتر كان حريصاً على إخراج ما كتبَ إلى حيّز النور في مسعىً منه لإيصال صوت خطابه الفلسفي داخل الأوساط الفلسفية التي كانت تحثُ الخطى، في المشهد الفكري والفلسفي الأوروبي والغربي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، صوب البحث عن تفسير لموجوديّة الحياة والكون والعالم والإنسان، وبالتخلّص، قدر الإمكان، من غلواء التفسيرات الميتافيزيقية التي كانت مُهيمنة على الفكر الإنساني رغم تكاثر الرؤى الفلسفية التي جعلت من البحث في عوالِم الإنسان غاية للبحث والتفسير والتأويل. في ظلِّ هكذا رؤية، ما كانت الظرفيّة متاحة لسارتر لكي يدخل إلى عوالم الإنسان الوجودية قبل أن تحين الفرصة؛ لقد دخل إلى هذا المجال فعلاً بعد الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي سحقت الإنسان وتركته جريحاً مهزوماً مثقلاً بالويلات، لكن سارتر وقبل ذلك لم يكن بمستطاعه التهرُّب من سُلطة الأفكار التي كانت دائرة حوله؛ بل لم يستطع التهرُّب مما كان عالقاً في ذاكرة الفكر الفلسفي والفلاسفة من موروثات الأمس القريب تلك التي فتح رينيه ديكارت معالمها، وزاد هذا الفتح وفق رؤية معينة جون لوك، ودافيد هيوم، وجوتفريد ليبنتز، ومن ثمَّ جاء إيمانويل كانط بفأسه النقدي الماسي ليرسم للفلسفة الحديثة معالمها الجديدة عندما لم يرفض العقل ولا المادّة حتى جمعهما في فلسفة نقدية بغية فتح الطريق أمام فخته، وشلنج، وهيجل، وهم ثلاثي المثالية الألمانية ليصوغ كُل منهما نظامه الفلسفي الميتافيزيقي الذي أعاد بموجبه القول أو الخطاب الفلسفي إلى الواجهة الشموليّة، وهي الواجهة التي كنّا درسناها تفصيلياً في كتابنا (نقد العقل الميتافيزيقي، تنويريات للنشر، الكوفة، 2018)، ليأتي فريدريش نيتشه ويفكِّك هذه البناءات، ناقداً روحها الشمولي، مُحرضاً على تهشيم أصولها ومقولاتها ليفتح الطريق أمام مارتن هيدغر في بحثٍ هميم له كان الغرض منه إخضاع كل المقولات الفلسفية الميتافيزيقية إلى فحص مجهري صار مقدِّمة منهجية لعشرات الفلاسفة الذين سعوا إلى فك ارتباطهم بكُل ما هو شمولي ناحية ما هو جزئي، فكان إدموند هوسرل الذي غار في أعماق النفس الإنسانية من دون اجترار لمعطيات البحث الأرسطوطاليسي الذي نظر في النفس البشرية وما حولها من دون التخلّص من هيمنة الرؤية الميتافيزيقية الشمولية في الوجود والطبيعة والمجتمع.
في ظل هذا المناخ الفلسفي الجديد، عكف سارتر على البقاء في أجوائه قليلاً، ناقداً ما كشف عنه الفلاسفة القريبين إلى عصره من أفكار فلسفية جديدة، وهو ما ضمّنه في كتابه (تعالي الأنا موجود) الذي درس فيه مدى واقعية «الأنا» التي أو الذي أحاطها الفلاسفة عناية تأمّلاتهم ودراستهم، وكانت غايته في البحث هي البرهنة على أن «الأنا» ليس في الشعور على نحو صوري أو مادي لأنه موجود في الخارج، أي: في العالَم؛ فهو من موجودات هذا العالَم، ووجوده شبيه بوجود «الأنا» كما هو ماثل في
الآخرين.بدا لسارتر أن الفيلسوف الألماني كانط هو الذي بدأ بمناقشة حيويّة لموضوعة «الأنا»، فمن ذي قبل قال كانط: «إن الأنا ينبغي أن يكون في مقدوره ملازمة جمع تصوّراتنا». – للمزيد أنظر: كتابنا المعرفة النقدية/ مدخل إلى نظرية المعرفة في الفلسفة الحديثة، دار الكندي، عمّان، 2001 - ففي الحقيقة كشف كانط، لأولّ مرّة، واقعية وجود الأنا في العالم الذاتي للإنسان. لكن سارتر عاد وتساءل برؤية أكثر واقعيّة لأنه أراد أن يُمسك الأنا وهي تصول وتجول في الوجود الواقعي وضمنه الإنسان، وهو ما عجز عنه، إلى حدٍّ كبير، رغم تأويلات أتباعه من النقديين الجُدد تلك التي رفضها سارتر حتى وصفها بأنها تعسفية، وعاد إلى دراسة «الأنا» في علاقتها بالشعور، وهو الأمر الذي وضع سارتر في مواجهة إدموند هوسرل الذي خاض غمار البحث عميقاً في إشكالية الشعور على نقيض الفلاسفة من قبله الذين نظروا كثيراً فيما وراء الوجود وتركوا الشعور البشري جانبًا.المعروف عن هوسرل أنه كان درس الشعور، ووصف ساتر دراسة هوسرل بأنها «عملية» وليست «نقديّة»، ليميز بين كانط الذي كان درس الشعور دراسة نقديّة، وإدموند هوسرل الذي درسها دراسة علمية، وهذا الأخير درس الشعور بواسطة الحدْس وليس العقل النقدي، وهو ما راق لسارتر أن يتأمَّل ما تحصَّل عليه هوسرل من أفكار؛ فقد وجد فيلسوف الوجودية غير المؤمنة في هوسرل عضده الذي سيفتح له الطريق مُشرعاً وواضحاً جلياً أمام اندلاق فلسفته الوجودية التي وصلت ذروتها الفلسفية المُحكّمة في كتابه (الوجود والعدم) ذاك الذي ظهر في سنة 1942 خلال الحرب العالمية الثانية. 
وفي ضوء الموجّهات الهوسرلية، قسّم سارتر كتابه (تعالي الأنا موجود) إلى قسمين وخاتمة، درس في القسم الأول منهما تطوّرات نظرية الحضور الصوري لـ «لأنا» في الفلسفة الحديثة بتأثيرات كانط والكانطيين الجُدد، ومن ثمَّ درس التأثير الهوسرلي ودور الشعور في نظرية «الأنا». كما أنه درس في هذا الاتجاه «الأنا» وفق ما كان يتصوّره رينيه ديكارت صاحب التأثير القوي في الفلسفة الحديثة؛ بل والمعاصرة من خلال مفهوم الكوجيتو أو «أنا أفكِّر إذن أنا موجود» الذي فهمه سارتر بوصفه شعوراً متأمَّلاً، ومن ثم درس نظرية الحضور المادي للذات التي أثبت فيها عدم جدوائيّة التصوُّر الصوري للأنا، وضرورة فهم الأنا بوصفه موجوداً كوحدة للأفعال. وهنا كان التحوُّل في رؤية سارتر عندما راح يؤكّد على «الفعل» وليس «الشعور» لدى الكائنات فقط، وقوله بأن «الذات» هي «الأنا موجود» بوصفها وحدة للحالات والكيفيات الموجودة في الحياة.  
في القسم الثاني، درس سارتر تكوين «الأنا موجود»، فمن الواضح هنا أن سارتر أخذ يتحدّث عن «الأنا» بوصفها موجوداً لكي يقترب بـ «الأنا» أكثر من الواقع. وفي النهاية يصل سارتر إلى قناعة فلسفية رفض بمقتضاها المذهب الانطوائي عندما فتح الشعور بـ «الأنا» على العالَم الخارجي، ويقصد به «الموضوعي» الذي يعيش فيه الإنسان. أما النتائج التي توصَّل إليها فهي على النحو الآتي: 1. يبدو تصوّر «الأنا موجود» أنه يحقق التحرّر من المجال المتعالي. 2. ويبدو التصوّر السارتري لـ «الأنا موجود» هو الرفض الوحيد الممكن للمذهب الانطوائي. وواضح هنا أن جان بول سارتر رفض المذهب الانطوائي، ورفض أيضاً الفلسفة المثالية الديكارتية، كذلك رفض المذهب النقدي الكانطي، ليصل إلى فلسفة في الشعور واقعيّة، وإلى منظور لـ «الأنا» واقعي بعيد عن النظرة المثاليّة أو المتعالية على الواقع.