الراهبة التي كتبت رسائل إلى الشعراء

ثقافة 2022/05/14
...

 نك ريباتريزون**
 ترجمة: محمد تركي النصار
 في نيسان من عام 1948 تسلم والاس ستيفنس رسالة من راهبة اسمها ماري بيرنيتا كوين كانت حينها تواصل دراستها لنيل شهادة الدكتوراه في جامعة ويسكونسن، وقد شكرها ستيفنس على تلك الرسالة التي كانت الاولى بينها قائلاً: (إنه لأمر يبعث على الارتياح أن تصلني رسالة من شخص مولع بالفهم).كان جوابه القصير هذا ينطوي على نوع من الفضول الشخصي الواضح: (أنا أبحث عن مركز وأتوقع بأنني سأستمر في هذا المسعى).
 
 
وفي عام 1951، وبعد أن كتب أحد النقاد دراسة أشار فيها إلى ماسماها (فكرة العدم الروحي) في شعر ستيفنس الذي كان قد كتب للراهبة بيرنيتا موضحاً: (أنا لست ملحدا، بالرغم من أنني لم أعد أؤمن بالإله ذاته الذي آمنتُ به عندما كنت صبياً).
ومع أخذنا بنظر الاعتبار النقاش الذي دار عندما كان ستيفنس على فراش الموت، عن الكاثوليكية، فإن رسائله المؤثرة إلى الراهبة بيرنيتا كانت مشوبة بنوع من الحيرة. فضلا عن مراسلاتها مع ستيفنس تبادلت الراهبة بيرنيتا أيضاً الرسائل مع دنيس ليفيرتوف، وليامز كارلوس وليامز، روبرت بين فيرن، جيمس رايت، شيموس هيني وآخرين كانت قد قرأت أعمالهم بعناية خاصة، واستجابوا لرسائلها بتقدير وامتنان عاليين. في شهر أيلول عام 1948 كتب ستيفنس للراهبة مضمناً رسالته شعوراً بالتقدير: (لا يمكنك تصور مقدار فرحي وأنا أرى امرأة بمستوى ذكائك وروحك الفاضلة وهي تستمتع بقراءة قصائدي). وقد استمرت مراسلاتهما خاصة في أعياد الفصح والميلاد، وفي إحدى هذه الرسائل يقول ستيفنس بأن ملاحظات الراهبة بيرنيتا تجعله يتصل بعالم مختلف لا توفره غير هذه الملاحظات، واصفاً رسائلها بأنها: (يبدو أنها تنبع من شيء جوهري، شيء لاعلاقة له بهذا الحاضر شديد القسوة). يستخدم بعض النقاد حوار ستيفنس ككشاف ضوئي لمعرفة الثيمات الدينية في شعره، وهذا المسعى بالإمكان تعميقه أكثر، وقد كان الشاعر يشكر الراهبة بيرنيتا لعنايتها الشديدة بما سماها: (الأشياء الأصغر) في شعره التي تنطوي على إحالات ومفاهيم دينية، وهي بالمقابل لم تعده شاعرا مؤمنا، فيما كان ستيفنس أيضا ينفي عن نفسه صفة التفلسف وقد كتب لها عام 1952: (لو شعرت بنوع من الدافع لتعميق الجانب الفلسفي في شعري لاتجهت إلى كتابة الفلسفة وليس الشعر الذي هو مايهمني أن أكتبه).
 لقد حازت عين بيرنيتا النقدية الحاذقة على مديح الشاعر وليام كارلوس وليامز الذي وصف قراءتها لملحمته (باترسون) بأنها تتمتاز ببصيرة ثاقبة، مؤكدا فرادة الراهبة بيرنيتا: (بالتأكيد أنه لأمر يهمني أن أرى هذا التفاعل مع ديواني، وبغض النظر عن كونه صعبا على أذهان القراء، فإنه قريبة لي، وطالما تمكن شخص واحد من الغوص في عوالمه ودوافعه فإن الآخرين قادرون على هذا الفعل أيضا وربما الوصول إلى طبقات أبعد في الاستيعاب.
في تلك الرسالة المؤرخة في آب عام 1951 اطلق وليامز مزحة: (أنت تدركين طبعا بوصفك كاثوليكية بأنني لست كذلك، مشيراً إلى (الفضيلة العظيمة للراهبة بيرنيتا التي لا تضع اعتراضات وافتراضات ضد اللا أدريين، مضيفاً: (أنا وأنت نتقاسم شيئاً أكبر من أنفسنا عندما نكون متسامحين) مكرراً ثناءه على مشاعرها الدينية عند صدور كتابها الأول (التقاليد الجديدة في الشعر الحديث) عام 1955، واصفاً عملها النقدي بأنه مضاء بحفاوة الالهام. نشرت الراهبة بيرنيتا شعرها أيضا، حيث صدر ديوانها (الرقص في السكون) عام 1983 وهو كتابها الوحيد الذي جمعت فيه ماكتبته طيلة تلك السنوات، وقد حظيت باهتمام العديد من النقاد والكتاب والدراسين، ومدحتها الروائية وكاتبة القصة المشهورة فلانري اوكونور مخبرة أحد الرهبان المسيحيين عن راهبة مينيابولس التي تكتب شعراً مدهشاً.  (أنت دعوتني إلى هنا لتخبرني بشيء سري) هكذا تبدأ قصيدتها.. (في غصون شجرة الصنوبر) حيث تجلس المتحدثة على مصطبة الحديقة، مفكرة كيف أن لا أحد سواها بإمكانه أن يرى: (مربعا مرتجفا من شبكة العنكبوت في شجرة الصنوبر).. وبالرغم من أن الهدية مؤقتة (هذه القطعة المكونة من الفضة واللؤلؤ ستقطعها الشمس/ هذا الحجاب المطبوعة عليه صورة يسوع ستمزقه الريح) إنها تبدو هدية مقدسة (لقد أعطيتني هذه الشبكة العنكبوتية التي يتساقط فوقها المطر/ مثل كلمة أب مهموسة همساً لإخراس الألم).
كتبت الراهبة بيرنيتا عن القيم الجمالية لدى الشعراء الكاثوليك الذين اهتموا بالثيمات الدينية من جيرارد مانلي هوبكنز وصولاً إلى من عاصرها من الشعراء.  وبتتبعها لتجربة الشاعر هوبكنز، وهو واحد من أبرز شعراء العصر الفيكتوري وصفت التحول الشعري بالقول إن خيال الكاتب يقوم بتحويل ماهو أمام النظر إلى شيء آخر محتمل، شيء مثالي أكثر حقيقية مما هو أرضي ملموس إنه الروح خلف الجمجمة بحسب تعبيرها.
وسواء أكان ماكتبته هو عن شبكة عنكبوتية في شجرة صنوبر، أو عن كيف لضفدع أخضر أن يغط في السبات متأملا أن عملية التمويه التي يمارسها سوف تنجح، فإن هذا الوعي بالتجاوز الممتزج بالحنو يترافق مع شعور بالتوتر الضروري النافع: (أنا أيضا قاتلت الكارثة بهذه الطريقة مستفيدة من اللامبالاة لأصنع يومي).
عاشت الراهبة بيرنيتا في مكان مسكون بالكآبة والإيمان وكانت دائماً شغوفة بالحوار الإنساني أكثر من أي شيء آخر.
 بعد أن أنهى جيمس رايت قراءاته الشعرية في كلية سانت تبريرزا أرسلت له الراهبة بيرنيتا كلمات لطيفة: (عندما مضيت ماشياً في الممر كنت مصعوقة بأحساس ميزته لاحقاً بأنه الحزن): (لا تدع الجدية الرقيقة تغوص في المقدس، لئلاً يسيطر عليك شبح ثيودور روثكة، وقد كان رايت مسروراً بحضورها في حياته شارحاً هذا الحضور وأهميته: (عندما كنت تكتبين لي استمتع بعظمة حضورك في ايطاليا أو جبال نيويورك، أو حتى عندما أكون حزيناً على شيء ما والأخير لأنني أعرف بأنك تتفهمين معنى الحزن كما لم يفعل بشر مثلك من قبل). توفيت الراهبة بيرنيتا في عام 2003 تاركة مخطوطة نثرية غير مكتملة وهي عبارة عن نسخة من (الكوميديا الإلهيَّة) مخصصة للأطفال، وضعت له عنوان (الحج الى النجوم)، وقد يبدو هذا الاهتمام غريباً لكنه يرتبط بمواهبها الخاصة جداً في (التحويل) الأدبي وغيره.
في واحدة من رسائله الأخيرة لبيرنيتا كتب والاس ستيفنس عن شعوره بالسعادة الذي تمنحه إياه ملاحظاتها له بين الحين والآخر، وكيف أنها بطريقة أو بأخرى تعود به إلى عالم بسيط، بإحساس نادر، وبالرغم من أن هذا العالم ذهب للأبد إلا أن شعور الديمومة الذي يوفره يعجز عن توفيره العالم المعاصر بكل تأكيد. 
* عن موقع المدار الأدبي
**  كاتب ومحرر ثقافي لعدد من المواقع والمجلات منها : (ايمج جورنال، رولنك ستون، اتلانتك، باريس ريفيو وغيرها، له عدة كتب آخرها: (الحنين إلى إله غائب).