فينومينولوجيا السعادة

ثقافة 2022/05/14
...

 عبد الغفار العطوي
 
السعادة.. ما السعادة؟ هي أكثر المفاهيم غموضاً والتباساً التي صنعها الإنسان في تاريخه المأساوي وثبتها في لائحة القيم والمفاهيم الصعبة التحقيق، لكنها مع ذلك بقيت غير مفهومة ولا ملموسة لديه أبداً، وإن أردنا قراءة سيرة رجل مثل نيتشه (1844 - 1900) لكي نلمس ماهية السعادة في حياة ذاك الفيلسوف الألماني الغريب الأطوار، التي سجلت تفاصيل نهاية حياته أفدح تساؤلات غياب السعادة في حياة رجل، ما الذي سنستخلصه من مفهوم السعادة! لا سيما ونحن نضع عنواناً يكرهه نيتشه لمقال البحث (فينومينولوجيا) المصطلح الفلسفي الهوسرلي لأدموند هوسرل (1859 - 1938) الذي ميز فلسفته بالأنا الديكارتي المفكرة، بل أوجد فكرة التعليق ومارس التفكير ليس بالذات، إنما بالبينذاتية في محاولاته إعطاء الفلسفة رونق العلم، لكن نيتشه كره الأنا الغليظ بتعبير جاك دريدا (1930 - 2004) وسار على رؤية مخالفة عن أي أنا، لذا هو يعد أكثر من انتهك المحرمات التي تقربه من ذاته كالجنون، والموت، ولهذا أحبه جورج بتاي (1897 - 1962)، وقدره بول ريكور (1913 - 2005) وإن كان تأثر الأول به أكثر في المفاهيم التي ارتبطت بالسعادة والحزن التي نجد آثارها في كتبه كالإيروسية والتجربة الداخلية والأدب والشر، وإن لامست حياة نيتشه، وانعكست على فلسفته، ولعل قراءة كتاب (أنا عبوة ديناميت حياة فريدريك نيتشه) للروائية السيرية سو بريدو تعطي انطباعاً أولانياً عن العلاقة بين حياة نيتشه وفلسفته، بعيداً عن التماحك الفلسفي الذي اعتاد المهتمون بفلسفة نيتشه تسليط الضوء على صور ذات الفيلسوف العميقة وبلاغة الخطاب التي يفهم منها الحقائق والأسباب التي قادت لجموح نيتشه في فلسفته الضالة، ولا نتفاجأ أن نقرأ الأساس الواضح للتعاسة التي رسمت فلسفة نيتشه  تضاريسها في رواية سو بريدو في لقاء نيتشه مع الموسيقار الألماني الشهير ريتشارد فاغنر (1813 - 1883) في صرح بروكهاوس قالت سو: كان نيتشه يغرق تدريجياً في بحر التعاسة لكونه فيلولوجياً، ومن المفارقة أن يعرض عليه بعد فترة قصيرة كرسي قسم الفيلولوجيا التدريسي في جامعة بازل، ويصبح أصغر الأساتذة سناً على الإطلاق، نتيجة لتفوقه المذهل في حياته الدراسية رغم حجم الأزمات المرضية التي تفجّر لديه عنوان  الشطحات الجنونية وسنفهم أن هناك أسباباً أخرى للتعاسة أصابت نيتشه، وغيرت مجرى حياته، وأعطت لفلسفته التشاؤمية لوناً مغايراً، تمثلت بمرض الأعصاب الذي انحدر من والد أبيه كارل لودفيغ القس اللوثري ودمغه بالتوتر لدرجة الجنون، والجو الديني الذي لم يرغب به نيتشه في عصر كانت تحولاته مثيرة شكلت فلسفة نيتشه دافعاً حيوياً، فمن الغني عن البيان أن معظم التصورات الابستمولوجية لما بعد الحداثة استقت دعائمها من الفلسفة الألمانية، وعلى الأخص هجوم نيتشه على الفلسفة الغربية، وهاجم نيتشه أيضاً التصورات الفلسفية للذات، وكان حبه للموسيقى الذي ورثه من عائلته أيضاً أثر في وصوله لحالات التوتر والتعاسة، وتأثره بمن تأثر بالشاعر الألماني هولدرين 
(1770 - 1843) كانت حياتهما تمشي على وتيرة واحدة، أي أن تأتي نهاية حياتهما نحو الجنون الذي يسبق الموت، وكتب نيتشه كما جاءت في رواية سو بريدو شيئاً عن الشاعر يشبه النبوءة (إن قبر الجنون طويل الأمد الذي سكنه هولدرين وتصارع فيه عقله مع ليل الجنون الذي خيم عليه متسارعاً قبل أن يفضي في النهاية إلى أغانٍ جنائزيَّة كئيبة وغامضة)، هولدرين الشاعر غير المحبوب من قبل أساتذة نيتشه قبل الجامعة، كتب مسرحية عن الشاعر الأثيني إمبدوكليس (492 - 432 قبل الميلاد) وكان نيتشه يحبه كثيراً بسبب تشابه رؤاهم  في موضوع الألوهية والجنون الناتج عن مسٍّ إلهيٍّ، فيبدو أن نيتشه وهولدرين وإمبدوكلس يشتركون فيه، مغروس في حياتهم، فقد لخص هولدرين في تلك المسرحية في عبارة جاءت على لسان إمبدوكلس (أن نكون وحدنا، ومن دون آلهة فهذا يعنيه الموت) هي الخطوة الأولى التي بدأها نيتشه في القول بموت الإله ولا غرابة أن وجه نيتشه نقداً للأخلاق المسيحية بعد ذلك في كتابه (جينالوجيا  الأخلاق) المستندة إلى مفهوم فضفاض عن المقدس وعن الألوهية أيضاً التي سنعرف لِمَ هذا التحامل عليها، الذي ربما له مساس بالتجربة النيتشوية في تجربة جنونه بعد عام 1888 التي توقعها الذين عايشوا حالته وعانى من أمراض مشابهة لأمراض والده قبل أن يجنَّ فجأة وبشكل دراماتيكي هذه الحالة المذهلة لنيتشه، وهي التي تتعلق بالذات لا غير تجعلنا نتعاطف مع فينومينولوجيا التعاسة!، فإن كانت صور الذات متعددة، فبلاغة الخطاب النيتشوي تدخل ضمن مفهوم الانتهاك في محرمات تلك الذات، ويحيلها جورج بتاي إلى الشر الذي يصاحب الشهوة الإيروسية التي هي تملك الحياة حتى الموت في الكتابة عن (إيميلي برونتي) وعن (بودلير) لكن الكتابة عن حياة نيتشه كشفت أن الذاتوية هي التي خلقت من كره نيتشه للقداسة فلسفة السوبرمانية، بيد أن فلسفته قد بدأت من علاقته بالرب مبكراً، 
وكانت أخته إليزابيث أو كما لقبها نيتشه بـ (اللاما الوفية) أكثر الشواهد على مساره حتى جنونه، وضاعف أمراض نيتشه في انزلاقه إلى الهوس في نقد قضايا عصره في الفلسفة، وأن يشترك مع هايدجر (الذي وجه بدوره نقداً للميتافيزيقا، خاصة في قضيتي التمثيل والتفسير 
اللتين تعتبران من الجوانب الابستمولوجية للحداثة المتعلقة بالتصورات الفلسفية للذات مثل الحقيقة والقيمة، ومن خلال توجيه مفهومي نظري بما مفاده ليس هناك حقائق بل تأويلات فقط.