أمير تاج السر صياد الحكايات

ثقافة 2022/05/15
...

 موسى إبراهيم  أبو رياش* 
 
مع كل رواية جديدة، يثبت الروائي السوداني أمير تاج السر، أنه حكَّاء آسر، يطارد الحكايات كصياد محترف، يجيد قنصها، أو تقع من تلقاء نفسها في شباكه المترصّدة، فتأتيه على طبق من فضة وربما من ذهب، ومن ثم يعيد نسجها وتشكيلها بلغة جميلة، وسرد عفوي سلس متدفق، فتخرج رواية ماتعة لا تنقصها الإثارة والتشويق.
إن الروائي في ثنايا روايته «تاكيكارديا: سطور من سيرة»، الصادرة عن دار «نوفل هاشيت أنطون» في بيروت، عام 2019، في 154 صفحة، يعترف أنه صياد حكايات، ويسعى وراءها، لتكون جزءًا من أعماله المستقبلية، يقول عن أحاديثه مع «اليسع» المريض بالفصام، وحكاياته المتخيلة: «كنت أغتبط بتلك الأحاديث المجنونة، أتخيلها على الفور خامات لنصوص أخّاذة، وملعونة، ترسم جمال الحياة وقبحها في الوقت نفسه، ترسم الصورة الأخرى للحلم، من دون أن ترسم صورة أولى منطقية». (ص43).
وكان يستمع بشغف للعجوز «عثمان تسلية»، الذي يعرف كل حكايات وأحداث وأسرار منطقته، ويوضح السبب: «لا أدري لم شدتني تلك الأحاديث التي لم تكن هزلية...، لكنه بالتأكيد ذلك الطمع بالظفر بحكاية ليست طافية في بحر ما لالتقاطها، ولا موجودة على طرف لسان ليدلقها مع الثرثرة، ولكنها عميقة عند رجل كان يعرف الحياة جيدًا في الماضي، وعرفها أكثر حين أوشك على التقاعد عنها بانضمامه إلى وظيفة السكون تلك». 
(ص119). وأرى أن ثمة تشابهًا كبيرًا بين الروائي و»عثمان تسلية» فكلاهما عاشق للحكايات وصيدها وروايتها.
وكشف الروائي عن أحد أسلحته في قنص الحكايات، فقد راقت له صحبة البحار السابق «الزبير الخضر»، الذي يحكي قصصًا وحكايات خيالية على أنها حدثت معه شخصيًا، يقول: «بالطبع توجد حدود للخيال حتى عند من يتخيل أشياء، هو يصدقها ويرويها بمتعة، أنا لم أكن أصدق ذلك، وفقط أصرّ على أن أصدقه لأحصل على المزيد، وقد اعتدت منذ تعلقت بالأساطير، والأجواء الغريبة، أن أهتم كثيرًا برواة الكلام، أولئك البسطاء الذين تجدهم أحيانًا يتسيدون المجالس، يصوغون حيوات لا يمكن أن تكون كما صاغوها أبدًا».
(ص132).بدأت علاقة الطبيب مع «مجهول» بالتشكيك والاتهام والمطاردة، وتحولت إلى حوار غير متزامن بينهما، كان الطبيب هو الأحرص أن يستمر ليتعرف المزيد عنه، من دون جدوى، يقول: «لم أصل إلى نتيجة كالعادة، ودائمًا وفي كثير من المنعطفات التي أحشر فيها حياتي لا أعثر على دافع سوى حب الغرابة، والالتصاق بالغرابة، والعثور على مواد خام، ربما أفككها ذات يوم وأعيدها إلى التماسك من جديد». (ص139) كان الطبيب يخطط للسفر إلى الخارج بحثًا عن فرص جديدة، يقول: “كان لديَّ إحساس غريب بأنني سأحصل على فرص جديدة وليست فرصة واحدة، وأعني فرصة عمل وفرصة كتابة أيضًا لكل ما تراكم في ذهني وسميته خامات للكتابة”.
(ص151-152)، وعندما أتيحت له الفرصة، وهبط في الدوحة يقول: “تعرفت إلى عالم جديد مدهش ومبشر، أيقنت أنني سأكتب كل الأفكار التي أملكها ولم أستطع أن أدلقها على الورق”. 
(ص154)لا شك أن الكاتب مستمع جيد، ومستدرج محترف، يسعى لاقتناص الحكايات مما يحدث معه أو يسمعه، ويتركها تتفاعل في دواخله، وتتراكم في ذاكرته، إلى أن تحين فرصتها فتخرج في رواياته، بعد أن يلبسها ثوبًا سردياً فاتنًا ولغويًا جميلًا، ويعيدنا في كثير مما يكتب إلى الواقعية السحرية بنسختها السودانية الفاتنة.
ففضلاً عن حساسية الكاتب الفائقة في التقاط الحكايات، وقدرته الفذة في إعادة إنتاجها ببراعة، فإنَّ ما وفر له المزيد عمله طبيبًا في مناطق متعددة في السودان وغيرها، واختلاطه بحالات إنسانية طبيعية وعفوية متنوعة، وقد بدأ حياته طبيبًا في منطقة كانت تعاني الجهل والفقر والأمراض والبساطة، والبعد عن المؤثرات المدنية، وغلبة الثقافة الشعبية، والإيمان بالخرافات وغيرها، فهذه البيئة وظروفها كانت خزانًا للحكايات ومولدة لها، مما أتاح للروائي أن يغرف منها من دون حساب.
وحول سبب عنونة الرواية بهذا الاسم، يقول في مفتتحها: “اعتمدت تاكيكارديا، التعبير اللاتيني لحالة تسارع دقات القلب، فقد كانت الأحداث متسارعة، وقلبي معها متسارع الدقات”.
لن نتورّط في تفاصيل الحكايات المثيرة والعجيبة التي وردت في الرواية، فمن حق القارئ أن لا نفسد عليه متعته، ولكن نذكرها عناوين للإلمام بالرواية إجمالًا، وهي: شريفة مختار، عبدالعظيم شوداك، سيدة البنات، رحمات، ضراب، اليسع، حواء لولا، مجهول، عثمان تسلية، أسمهان، سوسو، قمر، الكابتن جراهام، وغيرها. ولعل أكثرها إثارة حكاية “مجهول” الذي كان بينه وبين الطبيب حوار أشبه بما يجري على مواقع التواصل الاجتماعي، وسيلته لوح أسود. 
* (ناقد وكاتب أردني)