إنثروبولوجيا المتخيَّل السياسي عند الشيعة

ثقافة 2022/05/15
...

إبان التظاهرات العارمة في وسط وجنوب العراق في تشرين الأول 2019، كانت هنالك رغبة عنيفة لدى الآلاف من الشباب الشيعي للإطاحة بمجموعة من الزعماء السياسيين. اعتقادًا منهم أنهم المسؤولون عن الحياة البائسة التي يعيشونها. ومهما تعدَّدت المطالب والشعارات التي رفعت في تلك الاحتجاجات، إلَّا أن مطلب الخلاص من هؤلاء الزعماء كان هو الكامن خلف كل تلك المطالب والشعارات. وشعورًا منهم أن هذا الهدف هو فاتحة الأمل، لعراق أفضل من عراق ما بين 2003 – 2019. وعزَّز هذه القناعة بشكل أكبر، العنف الذي تعرض له المحتجون والذي سقط فيه المئات من القتلى والآلاف من
الجرحى. 
لم تكن هذه القناعة جديدة.. فمنذ سنوات - سبقت هذه الاحتجاجات- احتسر النظام السياسي العراقي، خاصة لدى الاجتماع السياسي الشيعي بشكل كبير. 
فقد تفاقم شعور عدم الرضا والثقة لدى هذا الجمهور. خاصة لدى فئة الشباب، وهو ما تجلى بنسبة المشاركة الضئيلة في آخر دورتين انتخابيتين، في العام 2018، و2021. على الرغم من أن هذه القيادات استطاعت أن تقدم نفسها كقادة للنصر العسكري على تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، في الحرب التي دارت لثلاث سنوات منذ العام 2014، وتكللت باستعادة المدن والبلدات التي احتلها التنظيم الإرهابي. إلا أن هذا لم يقنع هؤلاء الفتية وغيرهم بأن هذه الزعامات تعبر عنهم وتمثلهم
سياسيًا.
لكن رغم هذا الانحسار، لم يستطع الاجتماع السياسي الشيعي، أن ينتج زعماء بدلاء، واكتفى بإعلان المعارضة للزعامات القائمة. سواء بالعزوف عن المشاركة في الانتخابات، أو بالتعبير الانفعالي، خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي. وهذا الانسداد بذاته يمثل إثارة أخرى على بنية الزعامة السياسية عند الشيعة. 
فهذا الاجتماع كشف عن معتقده العميق ما أن أُجريت أولى انتخابات برلمانية حرة، بعد ثمانية عقود على تأسيس الدولة العراقية الحديثة. 
فبعد أن أطاح التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية بالنظام البعثي بقيادة صدام حسين، كان النظام السياسي الجديد قبل إقامته على الأرض، يقبع في حجر العقيدة السياسية الدينية والقومية في أدمغة الشيعة والسنة والكرد العراقيين. ولم تكن انتخابات العام 2005 إلا الإعلان الرسمي، ليتوج كل من الجماعات زعاماتها
السياسية.
 
فكيف صاروا زعماء؟ 
سؤال الزعامة السياسية، هو سؤال في الثقافة. فأيًّا كان شكل نظام السلطة والحكم، فإنَّ نمط العلاقة ما بين الناس والسياسي (زَعيم/ قائد/ ملك/ رئيس)، يضع دفعة واحدة أمام البحث الإنثروبولوجي مفتاحًا مهمًا لهذه الثقافة وتلك، وهو ما تجلى لهذا البحث بشكل
مُميز. 
ليس انطلاقًا من عد عملية التزعيم والولاء تكشف عمّا ورائها مِن بُنى ثقافيّة فَحسب، بل استنادًا إلى محوريّةِ هذا الموضوع في الثقافةِ العربيّة والإسلاميّة.. وبصيغةٍ أكثر تحديدًا عند المسلمين الشيعة. وقد قيل - بِما صار مُسلَّمًا بهِ-: "ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدةٍ دينيّة مثلما سُلَّ على الإمامة". 
وبالرغم من التحولات البنائية للسلطة في التاريخ الإسلامي السياسي، إلا أن نماذج الزعامة السياسية في هذا العالم، ما زالت تمتلك من الفاعليّة ما تستطيع أن تُمحور وتُعيد إنتاج طُرز الحكم، بِما يتماهى معها ويناسبها، فضلًا عن تأثيراتها
الثقافية.
صاغت هذهِ النماذج، السِمة الرئيسة لِلمشهد السياسي العراقي الراهن، المُتشكِّل من مجموعةِ زعماء سياسيين، يَملكون ما لا يملكه غيرهم من الفاعليّة السياسية
والاجتماعيّة. 
وعليه.. عمد البحث إلى الحقل الإثنوغرافي، مِن غيرِ أفكار نظرية مُنظمة، ما خلا التصورات الأولية والعامة، وعِبر الطقوس - الاحتفالات الدوريّة، التي يقيمها هؤلاء الزعماء ويجتمعون فيها مع أتباعهم، بكلِّ ما تشتمل عليه أزمنة وأمكنة هذه الطقوس والاحتفالات، استنادًا إلى عدّ هذه الطقوس والاحتفالات، فضلًا عن كونها من أبرز المداخل المنهجية في الإنثروبولوجيا السياسية ودراسات الزعامة في هذا العلم، فهي تشكل إثنوغرافيا الحقل الأكثر ثراء
للبيانات.
تولَّى التدوين الإثنوغرافيّ جمع كل ما يعينه من البيانات، لبلوغ الهدف الرئيس، وهو الإجابة عن التساؤل: ما صورة الزعيم السياسي في المتخيَّل الشيعي؟ ومن أين وكيف تشكَّلت؟. استوجب هذا الهدف الوقوف بعد الإثنوغرافيا على تحديد واضح لـ (المتخيل/ الصورة) بوصفها هدف الأهداف الرئيسة. وهو ما دفع للنظر في تاريخ دراسات المُتخيّل المتوائمة مع فلسفة
 الإنثروبولوجيا.
 حدَّدت الإثنوغرافيا، مساراتها النظريّة المُتعلقة بالبحث عن الزعامة السياسيّة في الأدبيات الإنثروبولوجية، وهو ما أتاح الانفتاح على مراحل واتجاهات هذه الدراسات التخصصية، بيد أنّ التحديد الإثنوغرافي رسم أُطرًا. وجد البحث في هذا السياق مُراده بدراسة لعالم الإنثروبولوجيا الفرنسي "كلود ليفي ستروس"، لنمط فريد من الزعامة السياسية عند جماعة في أميركا الجنوبية تعرف بالنامبيكوارا، ودراسة عالم الإنثروبولوجيا النرويجي "فيردريك بارث" عن الزعامة السياسية عند جماعات إقليم سوات باثان في
 باكستان.
وأمّا ما يتعلق بمنهج البحث، فقد فرضت البيانات الإثنوغرافيا - ولم تُحدد فحسب- البحث عن مَنهجٍ يوائم تمايز صورة الزعامة السياسية موضوع
البحث. 
وهو ما تحقق في منهج "النماذج البدئيّة"، وهذا المنهج الذي يتضح عبر من قال به من الفلاسفة وعلماء النفس وتاريخ الأديان والإنثروبولوجيّة مؤخرًا، يعود بأصوله النظريّة إلى تاريخٍ قديم يحدده بعض العلماء الغربيين إلى ما قبل الفلسفة اليونانيّة، ويقاربها استنادًا إلى الأفكار الرئيسة للنماذج البدئيّة، والتي تُقدّم بـ اسم: "العَوْد الأبدي"، فضلًا عن تصورات في الحضارات الشرقية كما يثبت تاريخ هذه الحضارات، ويؤكده عالم تاريخ الأديان "ميرسيا إلياد".
منهج النماذج البدئيّة قُدِّم بالشكل الحديث له على يد عالم التحليل النفسي البارز "كارل يونغ"، ومنذ ذلك الحين احتذى علماء عديدون من طلبة "يونغ" خطاه في تبنيه، كاتجاه ومنهج وجهاز في التحليل النفسي الاجتماعي والثقافي. إذ صاغ هذا المنحى ما صار في هذا الوقت يُعدّ من المُسلَّمات العلمية، وهو مفهوم "اللاوعي
الجمعي". 
ولم يتوقف منهج النماذج البدئية عند حدود علماء التحليل النفسي من مدرسة "يونغ"، إنما عمد الكثير من الفلاسفة والعلماء في مجالات تخصصية مختلفة بطريقةٍ مباشرة وغير مباشرة، لاعتماده والاستعانة به في الدراسات التي وضعوها. وكان الإطار الجامع لكلِ هؤلاء هو التحول الذي أنتجته الفلسفة الظاهراتية "الفينومينولوجيا" على يدل "إدموند هوسرل" مطلع القرن العشرين والمنحى التجريبي للبحث.
إلّا أنّه وبالرغم من اعتماد بعض علماء الإنثروبولوجيا على مقولات "النماذج البدئيّة"، وأبرزهم "جيلبرت دوران"، فإنّ الإنثروبولوجية وتحديدًا الثقافيّة، لم تنفتح بشكل مثالي على هذا الاتجاه والمنهج، وهو ما حدا بأُستاذ أنثروبولوجيا الدي، بقسم الاجتماع والأنثروبولوجيا بجامعة كارلتون بكندا "تشارلز دي لافلين" Charles D. Laughlin في بحثه الموسوم "النماذج البدئية نحو إنثروبولوجيا للوعي 2014" لتوجيه نقدٍ لتاريخ الإنثروبولوجيا أنّها بقيت لأكثرِ من نصف قرن من غير أن تتأثر بأفكار النماذج البدئيّة خاصة في ما يتعلق بإنثروبولوجية الوعي كما سيتضح.
هذا السياق هو ما دفع البحث إلى إيجاد اشتغال يعتمد النماذج البدئيّة على أن يحقق مواءمة مع المنهجيّة الإنثروبولوجية، انطلاقًا من أن الحقل البحثي لـ "كارل يونغ" وطلابه - فضلًا عمّن تبنى هذا الاتجاه من المشتغلين في الفلسفة، لا يمكن الاعتماد عليه، وفقًا للاشتراطات المنهجية. وهو ما حدا لاختيار الاتجاه الذي قدمه عالم تاريخ الأديان والفيلسوف الروماني "ميرسيا إلياد Mircea Eliade" في سلسلة أعماله البحثيّة، التي اعتمد فيها على دراسات ميدانيّة أجراها بنفسه في الهند وفي أماكن أخرى حل فيها، فضلًا عمّا قام به "الياد" و"يونغ" كذلك في الاعتماد على الدراسات الإنثروبولوجية والإثنولوجيا منها خاصة في تدعيم الاتجاه النماذجي
البدئي. 
بيد أن هذا المنحى المنهجي باتجاه النماذج البدئيّة عند إلياد، هو الآخر استلزم سلسلة من المقاربات والمواءمات مع أفكار قدمها علماء الإنثروبولوجيا، من الذين كان لهم أعمال في هذا المجال. وأبرزها الإنثروبولوجيا البنيوية خاصة ما يتعلق بالبنى العقلية الأُولى، وثنائية الطبيعة والثقافة، وأطروحات الإعادة والتكرار عند "إميل دوركايم" و"مارسيل ماوس" و"رينيه جيرار" و"روجيه كايوا"
وغيرهم.  
 ولأنَّ البحث يدور في الفضاء الثقافي العربي والإسلامي، عملتُ على مقاربات مع أبرز الدراسات التخصصية في مجال الزعامة السياسية. 
فوجدتُ منشودها في ثلاث دراسات وضعها مؤلفون عرب وهم عبد الله حمودة في كتابه "الشيخ والمريد" وهشام شرابي في كتابه "النظام الأبوي" ومحمد الجويلي في كتابه "الزعيم السياسي في المتخيل
الإسلامي".
سعى البحث للالتزام المنهجي بالأدبيات الإنثروبولوجية القائمة على بيان مفهومي، وأساسات نظرية، وبيان للمنهج. ومن ثم ينتقل إلى الدراسة الإنثروبولوجية ليجمع كل هذا جهاز من أجل ما ختم به وهو البحث
التحليلي.