حين ننتقص من أعمالنا

ثقافة 2022/05/17
...

 علي لفتة سعيد
 
تثار بين الفينة والفينة انتقادات لبعض الأعمال الفنية والإبداعية، بعضها يصل إلى درجة أن تكون لاذعة أو ساخرة أو متهكّمة، تبثّ بطريقة الاستهجان تارة، أو بطريقة الانتقاص من هذا العمل أو ذاك، ناهيك عن تناول سطحي للأسباب الموجبة لهذا التوجّه من الانتقاد الذي يقترب من تحوّله إلى انتقاصٍ مقصود. 
وعلى الرغم من أن الأمر لم يكن وليد اليوم، بل أن مقولة (مطربة الحي لا تطرب) هي واحدة من أسباب ظهورها هذا التوجّه نحو البحث عن سلبيات حقيقية على قلّتها وغير حقيقية على كثرتها، وهو ما يدعو إلى مراجعة حقيقية عن الأسباب التي تؤدّي إلى  ظهور هكذا توجهات (نقدية – انتقاصية) زادت حدّتها وسرعتها وتوجّهها وكثرتها مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وما تعرف بمصطلح (السوشيل ميديا).
إن هذه الانتقادات التي نقصدها ولا نقصد بكل تأكيد النقد البناء الذي يجب تواجده لأن لا عمل بلا نقصان ولا سلبيات، فالرؤية الكلية لا يمكن رؤيتها من منجزي العمل، فهي ترى من مجموعة (رؤيات) يشارك فيها عدد كبير خارج منظومة الإنتاج لهذا العمل الفني أو النصوص الإبداعية بشكل عام.. وقد ذكرنا في مقالٍ لنا أسباب مقولة الانتقاص من العمل المحلي، إن السبب يعود إلى أن النصّ المحلي نصّ مباحٌ، ويقع في منطقة شفّافة ويمكن أن يرى من الجميع، لأنه ابن البيئة المحلية في حين لا يمكن رؤية النص الخارجي وخاصة الأجنبي منه، لأنه يظهر من خلال مرايا سميكة وأنه مؤطّر بطرقٍ إنتاجية عالية المهارة والحرفية. 
ولهذا فإن الفرق بين النصين هو عملية قبول النصّ الخارجي بكلّ سلبياته وإن كثرت، والانتقاص من النصّ المحلي بجزءٍ من سلبياته وإن قلّت.
إن النصّ المحلي سواء كان أدبيًا أم فنيًا لا يمكن أن يتطابق مع الواقع، وهو الأمر الذي يفهمه منتجو النصوص والمشاركون في صناعته، لكنه يغيب عن المتلقّين الذين يعتقدون أنهم يتلقّون شيئاً حقيقياً وخاصّة بالنسبة للنصوص الدرامية (مسلسلات) وأنه يتعاطف بشكلٍ كلّي معه يصل إلى حد الاندماج والبكاء لأيّ فعلٍ أو ردّة فعل لمشهد هنا أو هناك، وقد يكون هذا الأمر طبيعياً كونه يرى حقيقته وأنه لا يفهم العملية الإنتاجية.
ولكن ما بال المشتغلين في حقل الإنتاج الإبداعي الذين يتوجهون إلى طريقة الانتقاص لأنهم يعتقدون أن لا حقيقة ولا واقع في هذه الجزئية أو تلك، متناسين أن اي عملّ إبداعي  يحمل فكرةً للمناقشة وليس فقط عرض أجواءٍ واقعية من 
المجتمع. 
وكأنّ النصّ (وهنا اختصاراً لأي عمل فني أو أدبي كونه يبدأ بنصّ مكتوب) وبالتالي فإن الاسقاطات الواقعية إذا ما تمّت على أيّ نصّ، فلا الفرق بين الفن والواقع سيذوب والخطّ الوهمي سينتهي ويختفي ومنطقة الإبداع لن تحتفظ بماهية العمل الابداعي، والمتلقّي ذاته لن يجد منطقةً للتفكير لأن ما قدّم له هو جزء من واقعه، وسيتحوّل إلى نكتةٍ يسمعها لمرّةٍ واحدةٍ دون تفكير.
ولنأخذ مثلًا بسيطًا من نصّ فنّي وهو مسلسل (بنات صالح) وعلى الرغم من وجود أمكنة قابلة للنقد والنقد الجدّي، إلّا أن لا مجال للانتقاص بحجّة عدم وجود هذا المشهد أو ذاك في الواقع.. فمثلاً بنات صالح يذهبن إلى السجن لإخراجه من السجن بعد إطلاق سراحه وقد استعان  المؤلف باختصار اللقطات كونه يريد تبيان براءة الأب وقد أطلق سراحه والعائلة معه.. ونجد في المقابل قبولاً من مشهد لفيلم أجنبي يتم فيه تفجير سيارة في الشارع العام من قبل عصابة تواصل مهمّتها ومطارداتها دون ملاحقة من الشرطة إلّا في نهاية الصراع.. وكذلك وجود مشهد مطاردة لعدة شوارع من قبل سواق مركبات دون أن تتم السيطرة عليها إلّا بعد تجاوز عدة كيلومترات ثم تتم المطاردة أو لا تتم والحل يكمن بسقوط المركبات في نهر.. وكذلك مفاجأة صاحب البيت بوجود شخص غريب في بيته وقد دخل دون معرفة الكيفية، مع العلم وجود أقفال إلكترونية وحراسات مشددة وغيرها (وهذه لقطات تتكرر كثيراً في المشاهد الأجنبية) وهناك الكثير من هذه المشاهد (غير الواقعية)  حتى في النصوص الإبداعية العربية.
لكنها لا ترى بشفافية كونها ليست من بيئة المشاهد العراقي الذي يدرك المنطقة ويعرف خارطتها.. وهو ما حصل مثلاً لأحدى المسلسلات التي عرضت وهي تستخدم اللهجة الجنوبية فانتقد البعض وجود ألفاظٍ ليست جنوبية فراح ينتقص من المسلسل.
وهو الأمر الذي ينطبق على الأدب ايضاً، فثمة نصوص وخاصة السردية منها والمسرحية تتعرض إلى الكثير من الانتقادات التي تصل إلى الانتقاص لأنها حملت مشهداً غير واقعي، كما يراه المتلقي المنتقص، والذي لم يكن في بال المنتج للنص، لأنه معني بإيصال الفكرة للمحاورة وبث الوعي..
إن الانتقاص الذي يوجه من المشتغلين في حقل الإبداع هو أمضّ، بل هو مرض كونه لا يرى إلّا سلبيات العمل الذي أمامه.