ظلُّ الريح السرد بأقنعة متعدِّدَة

ثقافة 2022/05/17
...

 رشيد الخديري
  الكتابة في كلياتها تجربة ورؤى للعالم. وهذه التجربة لا بدَّ لها من لغة وتخييل ووعيٍ بما هو كائن وبما ممكن في إطار من الكشف والاتصال بين الذات المبدعة في اندغامها مع عوالم الكتابة، حتى يتم نقلها (التجربة) إلى جمهور القرَّاء بنوعٍ من الدهشة والشغف والخلق. نتفق أولا، أن الكتابة عملية شاقة وعصية عن القبض، وهو ما يجعلها أيضاً تنبني على مجموعة من التأويلات.
 كل قارئ/ متلق له رؤيته الخاصة لأي أثر إبداعي، ويكون من الصعب أن يتفق القرَّاء حول أثر إبداعي ما اتفاقا كليا، وهذا هو مبعث الشغف في الأدب ودهشته. من هذا المنظور المختلف والتعددي في قراءة الأثر الأدبي، تبرز إلى الضوء أعمال الأدبية، السردية منها على وجه التحديد من تبتكر طرائق جديدة في الكتابة وخلق رؤى مع
العالم. 
„ظل الريح“، رواية الكاتب الإسباني الراحل كارلوس زافون تحقق هذا التفاعل المثمر، المثاليّ مع المتلقي، بدرجة عالية من الدهشة والالتزام مع القارئ، هذه الدهشة ليس مردها عوالم الرواية فحسب، وإنما، حرفية زافون في الإبقاء على القارئ متيقظا طوال أكثر من خمسمئة صفحة، لا يرف له جفن، ولا تأخذه الرتابة وترميه في قعر مجوف من انعدام التجاوب. „ظل الريح“ ملحمة روائية على قدر كبير من الثراء المعرفي والانجذاب نحو البنى العميقة للذات الإنسانية وسفر في تاريخ إسبانيا الحديث، وفوق ذلك كله، الانهمام في مجرى التذوق والجمال، أن المبدع كما تنبه إلى ذلك تزيفطان توودروف، ونستهدي به في هذا المقام، جوهره الحقيقي هو الموهبة، نعم، إنها الموهبة من تخلق تفاوتا في درجات الإبداع، فهناك من“ ينتج أشياء نفعية، والثاني أشياء للتأمل من أجل المتعة الجمالية وحدها، الأول ينقاد لنفعه، والثاني يظل مترفعا عنه“، وحاصل الأمر، أن كارلوس زافون من خلال رواية „ظل الريح“، يبتكر طرائق جديدة لتوليد الحكايات، كل حكاية تفضي إلى حكاية، في قالب من الإدهاش والمتعة، وليست „الآداب الجميلة“، وحجدها من تخلق تماهيا بين المبدع وبين جمور القراء، بل أيضا حصص الاستمتاع والتموقع تحت الأضواء الكاشفة من أجل التأمل واستثارة الحواس والدخول مباشرة في صلب الانجذاب والتضايف.
المختلف في هذه الرواية، هو عزفها على وتر الشخصيات، كل شخصية تحفل بغرابتها ودهشتها ومزاجها، وترتبط ببعضها البعض، إما بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، لكن، في النهاية، تخضع لمصير واحد، وإن اختلفت المصائر والطرق والطرائق، إلا أن الحاصل، هو حالة الاشتباك مع كاتب رواية ظل الريح الحقيقي خوليان كاراكاس. الرواية في قلب الرواية كشكل من السرود المولدة عن طريق الحكي والذوبان بين الشخصيات والعوالم الخفية داخل وخارج الرواية، لم تأت بشكل تعسفي، وإنما وفق رؤية للعالم يتيح فهما أعمق للكائن في صراعاته المريرة مع التجربة وعنف العالم. 
إن دانيال (بطل الرواية)، يُعيد بشكل آخر تجربة خوليان كاراكاس في الحياة والحب والخيانة والصداقات والغربة، حتى ولو أنه لا يعي ذلك، ولا يدرك أن ظل كاراكاس متخفيا فيه، وسيعيش التجربة المريرة نفسها، انطلاقا من سوء تقدير محتمل أو شطط في استعمال الأنا أو الأنانة (solipsisme). ثمة خيط سردي من نور يُطوِّبُ „ظل الريح“، من „مقبرة الكتب المنسية“، إلى آخر رعشة من الرواية، وإن بدا واضحا، الإغراق في الغموض واللغزية والإكثار من التفاصيل والفواصل التاريخية، حتى لَيُّخيَّلَ أننا أمام رواية مغلفة بروائح الاستشراق، لكن، هذا لا يلغي تلك الدهشة التي تصيب القارئ/ المتلقي وهو يلتهم هذه الصفحات المحبَّرة بطعم الحب ودماء الحرب الأهلية التي أغرقت شوارع ودروب برشلونة في القرن
 العشرين.
 إن „ظل الريح“، باعتبارها الجزء الأول من رباعية كارلوس زافون، إضافة إلى روايتي: „لعبة الملاك“ أو „متاهة الأرواح“، ثم „سجين السماء“، وجزء رابع من الملحمة لم يصدر بعد، هي في الواقع، نسيج متكامل ومتشابك من حبكةٍ دراميةٍ تنهل من أوليات „مقبرة الكتب المنسية“، إذ السرديات الكبرى بتعبير بول ريكور تتأسس وتنبني على رواية لمؤلف برشلوني مجهول هاجر إلى باريس بعد فشل في قصة حب مع بينلوب، الشابة العشرينية الجميلة سليلة عائلة عريقة ببرشلونة تُدعى „عائلة آلدايا“، وهذه الرواية وُجدت مدفونة بمقبرة الكتب المنسية، ثم سقطت بين يدي دانيال سيمبري (بطل الرواية)، ثم نفض عنها الغبار، وبدأ في رحلة البحث عن الحقيقة المجهولة. حقيقة مؤلف يُدعى خوليان كاراكاس الذي خلَّف موته الغامض المفترض ضجةً كبرى، وحالةً من الفوضى والتَّرقب، خصوصاً من المحقق „فوميرو“، لكن، الحقيقة، هي أن كاراكاس لم يمت، بل، تقمص دور إحدى الشخصيات الرئيسة في الرواية وهو (لايين كوبيرت)، ويبدأ في حرق كل روايات كاراكاس، لأنها في اعتقاده مبعث الشر والشيطان في هذه الحياة.
  رواية ساحرة بدون شك، وضاجة بالأسرار والعوالم الخفية، حيث كُتبت على طريقة الماتريوشكا الروسية، من حكاية إلى حكاية، ومن حبكةٍ إلى حبكةٍ، إلى درجة أن زافون لا يترك لك الفرصة لأخذ قسط من الراحة، بل تبقى أنفاسك تتلاحق وتتناثر وتتواتر في جو مهيب من الحكي الممتع، والأكيد أن كارلوس زافون يملك من الحرفية العالية والتقنيات السردية ما يجعلك تعلق وسط كم هائل من الأحداث الدرامية وفق رؤية للعالم لا تنفك ترميك في متاهة من الجنون، لكنه جنون لذيذ
 وغامض. 
* ناقد من المغرب