أدونيس وتحوّلات الديوان من الشعر إلى النثر

ثقافة 2022/05/17
...

 ريسان الخزعلي
  
( 1 )
منذُ وقتِ مُبكّر من عمره الحياتي والإبداعي، أنجز/ أدونيس/ كتاباً بثلاثة أجزاء، ضمَّ مختارات من الشعر العربي تحت عنوان/ ديوان الشعر العربي/ مع مقدمة تنظيرية شاغلة. صدرت الطبعة الأولى عن المكتبة العصرية – بيروت (1964- 1968). حظيَّ الكتاب بترحاب كبير، ونفاد أكبر، لما توافر عليه من دقّة في التقصّي والجمع والاختيار، وكان كل ذلك يتم بوعي الشاعر وذائقته، لا بوعي المؤرخ أو العالِم كما يقول. ونتيجة لذلك أُعيد طبع الكتاب طبعات لاحقة وصدر عن دور نشر معروفة، كان آخرها دار الساقي عام 2010، وهي الطبعة الخامسة للكتاب وبأربعة أجزاء مزيدة ومنقّحة.
في كل طبعة، يؤكد أدونيس دور الشعر العربي في تشكيل الذائقة وأهميته الثقافية والتاريخية والحضارية. يقول: أزداد إعجاباً بالشعر العربي، ذلك أنني أزداد وعياً وقناعةً بأنه، بين وسائل الإفصاح عن الطاقة الإبداعية العربية الأكثر جذرية وشمولاً، والأكثر حضوراً وكشفا، ويُخيّل إليَّ أنه، الآن الوحيد الذي يعطي لهذه الطاقة بُعدها الإنساني وبُعدها الكوني على السواء.
الشعر العربي، منظورا إليه من هذه الزاوية وفي هذا المستوى، هو الهواء الأنقى الذي تتنفسه رئة الإبداع العربي. ويُضيف: نُدرك أهمية هذا الديوان حين نتذكّر أن الطاقة الابداعية الأولى عند العرب هي الطاقة الشعرية.
( 2 )
في العام 2012، يُصدر أدونيس كتاباً مشابهاً في منهجية الاختيار والدقة للكتاب الأول، بعنوان/ ديوان النثر العربي/ ..، ضمَّ مختارات من النثر العربي مع مدخل تقديمي يعكس حساسية أدونيس الابداعية الذوقية، وتفاعله مع قيمة هذا النثر، جاعلاً منه ديواناً آخرَ للعرب، في مقاربة غير مسبوقة في مستوى التوصيف: ديوان النثر. ولكي يؤصل التوصيف، يستحضر المعنى القاموسي لمفردة/ ديوان/ قائلاً:
في (لسان العرب) أن (الديوان) كلمة فارسية معرّبة، وتعني، كما جاء فيه (مجتمع الصحف، والدفتر الذي يُكتب فيه أسماء الجيش، وأهل العطاء). ويُضيف معجم (محيط المحيط) قائلاً (الديوان الجريدة. مأخوذ من قولهم: دوّن الكتب إذا جمعها. لأنها قطع من القراطيس مجموعة. ويقال: فلان من أهل الديوان، أي ممن أُثبت اسمه في الجريدة. ويُطلق الديوان أيضاً على مجلس الوالي الذي يُجتمع فيه للمفاوضة في الأمور السياسية. وعلى الكتاب الذي تُجمع فيه قصائد الشاعر. وربما أُطلق الديوان على كلِّ مجلس يُجتمع فيه لإقامة المصالح أو النظر فيها. وسُمّي الشعر ديوان العرب، لأنهم كانوا يرجعون إليه عند اختلافهم في الأنساب والحروب وإجراء الأرزاق من بيت المال، كما يرجع أهل الديوان إلى ديوانهم عند اشتباه شيء عليهم. أو لأنه مستودع علومهم، وحافظ آدابهم ومعدن أخبارهم). ويعلل أدونيس: انطلاقاً من هذا الاستشهاد الطويل، عمداً، يمكن الزعم أن في أصل كلمة (ديوان)، وفي تنوّع استخدامها ودلالاتها، ما يُتيح لنا أن نستخدمها بمدلول جديد آخر: (ديوان النثر العربي)، استناداً إلى دلالة (الجمع) على الأقل.
من استخلاصات أدونيس في مدخله التقديمي:
1 - بنية النثر أقرب، تاريخياً، إلى مفهوم الكتابة. 2 – بنية الشعر أقرب، تاريخياً، إلى مفهوم الشفاهة. 3 – الشعر من حيث نشأته، طبيعة أو فطرة. 4 – النثر من حيث نشأته، صناعة. 5 – في التطوّر، أصبح كلٌّ منهما طبيعة وصناعة في آن. 6 – تقوم علاقة الشعر مع المجتمع على الحفظ. 7 – تقوم علاقة المجتمع مع النثر على القراء. 8 – النثر الصوفي أكثر صعوبة من الشعر، ويُمثّل مدى جمالياً متنوعاً، قلّما نعثر عليه في الشعر. وهو انفجار لغوي داخل الكتابة العربية، إنَّ فيه كيمياء أدّت إلى ابتكار أشكال من التعبير، لا نراها في الشعر. 9 – الشعرية العربية لا يُمثلها موزون الشعر العربي وحده، وإنما الكثير من المنثور الأدبي العربي يُشكّل جزءاً جوهرياً من هذه الشعرية. وأن ثمة نماذج من المنثور الصوفي يمكن أن تكون الينابيع الأولى للكتابة الشعرية العربية. 10 – قيمة الكتابة الشعرية الجديدة من حيث أنها تُحاول أن تقول مالم تقلهُ الكتابة القديمة إنما هي في انشقاقها وتفجراتها. 11 – ليس الإبداع تراثاً وإنما هو بداية دائمة.
 
المراجعة 
1 – أدونيس في مقدماته التنظيرية لديوان الشعر العربي، يزداد إعجاباً بالشعر العربي، وأنهُ من بين وسائل الإفصاح الابداعية الأكثر جذريةً وشمولاً والأكثر حضوراً وكشفاً، وأنه (أي الشعر) هو الوحيد الذي يعطي لهذه الطاقة بُعدها الإنساني وبُعدها الكوني على السواء. والآن في المدخل التقديمي لديوان النثر العربي، يصبح النثر الصوفي مدى جمالياً متنوعاً  قلّما نعثر عليه في الشعر، وفيه من الكيمياء ما أدّى إلى ابتكار أشكال تعبيرية لا نراها في الشعر.  
والسؤال، هل كان الشعر يخلو من الكيمياء؟ الكيمياء التي تحسستها مجسّات أدونيس المدبّبة في مختارات ديوان الشعر العربي، لماذا لا تكون حاضرة كاِستدراك إبداعي موازٍ؟ وإذا كان الكثير من المنشور في الأدب العربي يشكّل جزءاً في الشعرية العربية، فماذا عن الشعر الصوفي؟ 
2 – في/ ديوان الشعر العربي/ كان الاختيار يقدم على الإبداع، الإبداع الذي كان تراثاً. والآن في/ ديوان النثر العربي/ لا يصح أن يكون الإبداع تراثاً، وإنما هو بداية دائمة! 
3 – نعم، تقوم علاقة النثر مع المجتمع على القراءة، كما أن علاقة الشعر مع المجتمع تقوم على القراءة أيضاً، مثلما تقوم على الحفظ.. مَن يستطيع أن يحفظ شعر أدونيس مثلاً؟ وهل حفظ أدونيس كل ما اختاره في ديوان الشعر العربي قبل التدوين وأقام علاقته المجتمعية معه؟! 
4 – إنَّ قيمة الكتابة النثرية الجديدة، هي الأخرى، لا بدَّ أن تُحاول ما لم تقله الكتابة القديمة. فلماذا يكون التحديد هذا على الكتابة الشعرية الجديدة فقط؟!
5 – أُضيف لما جاء في (3).. وبما أنَّ الشعر مادة انشاد وغناء، على عكس النثر، فإنه الأقرب الى الحفظ، ولكن بحدود لا يصح فيها الاطلاق.
6 – في التطوّر، يصبح الشعر والنثر طبيعة وصناعة، غير أنهما لا يشتركان، لا بالطبيعة ذاتها ولا بالصناعة ذاتها.
7 – مدخل أدونيس التقديمي لديوان النثر العربي، كان ذاهباً إلى النثر الصوفي بعنوة واستعداد روحي، وقد أضاءه بدراية عالية/ عميقة، توازي ماجاء في كتابه (الصوفية والسريالية) تنظيراً واستدلالاً، ولم تكن إضاءة النثر اللا صوفي بالشدّة ذاتها، لأن في أدونيس بُعداً صوفياً/ شعرياً، وشعرياً/ صوفياً، حتى وإن كان من خارج الفهم الديني للصوفية.
8 – أدونيس، سحبَ التوصيف (ديوان) من الشعر إلى النثر بدلالة (الجمع) كما يقول في خلاصته، ليضفي تأسيساً تاريخياً اجتهادياً لما آل إليه تحوّله في كتابة النثر- وليس قصيدة النثر- كما في أعماله الأخيرة وصياغاته النهائية لأعماله الشعرية التي لاتعتمد التتابع الزمني وإنما تتابع الشكل.
9 – في الصياغات النهائية، يقول أدونيس: آثرت أن تكون القصائد الطويلة في مجلد، والقصائد القصيرة في مجلد، والقصائد غير الموزونة في مجلد آخر، ولم يقل قصائد النثر! إذن، هو النثر الذي يتماسّ مع ما جمعه في ديوان النثر العربي، في توازٍ معرفيٍّ إبداعيٍّ.
10 -  وفي إنصات أخير، إنَّ أدونيس يُغري بالإيهام: البصري والشكلي والتنظيري، غير أنه الإيهام الفني/ الجمالي المتحوّل بين القُدامة والحداثة، بين جذر التراث، وأوراق الحداثة، بين الاطلاع والاستطلاع، بين ما هو متحقق والذي يجب أن يتحقق. 
إنّه بداية دائمة في تحولات شاغلة، من بينها أن يكونا/ الشعر النثر/ في ديوان، كي يواصلا الحضور والاستمرار في شعرية واحدة، وتأصيل واحد. إنّها تحوّلات أدونيس الشاغلة، التحولات التي تستهوي الإنصات للـ:/ القصيدة الأفقية (العمودية) ..، قصيدة التفعيلة، قصيدة النثر، القصيدة غير الموزونة، النثر/ في ثوب واحد على جسد القصيدة الواحدة أو في النسيج الشعري، وقد أوصلت النثر إلى الديوان.