الدراسات الثقافيَّة والكائن الميت

ثقافة 2022/05/19
...

 مهند الخيكاني 
 
تبدو الدراسات الثقافية في أحيان كثيرة حينما تخاطب النصوص القديمة بعين الحاضر الثقافي وهي تحاول الكشف عن مضمرات نسقيَّة، كما لو أنها تقول لأصحابها أيضا:
لماذا تمتطون الأحصنة؟ وتستخدمون الآبار؟ وتسكنون الخيم؟ وتركبون الجمال وتستخدمونها للتجارة والسفر؟ بدل السيارات والدراجات والبيوت الحديثة والعمارات؟ الفرق الوحيد بينهما أن النصوص هي ثقافة معنوية إلى جانب العادات والتقاليد والطقوس والحكايات الشعبية، أما الوسائل فهي تنتمي إلى الثقافة المادية. كلا الجزأين قابل للتطور وإن كانت الأنثروبولوجيا النفسية ترى بصعوبة التخلي عن العادات والتقاليد أو تعرضها للتغيير نظراً لارتباطها نفسياً ووجدانياً بأعماق الفرد، ولكن هذه الصعوبة لا تمنع من النظر إلى هذا الجانب المعنوي على أنه ابن زمنه. 
كل المجتمعات الراقية اليوم كانت فيما مضى تتاجر بالعبيد وللمرأة وجود مهتوك، ولها نزعة استعمارية على البلدان الأضعف، وهي اليوم ترفض أغلب تلك الظواهر باستثناء طرق الاستعمار التي تغيّرت إلى وجه آخر لدى الدول الكبرى المتسيّدة.
ويمكن أن نتفق قليلاً مع هذه الدراسات المعنية بكشف السياقات القبلية والأبوية والذكورية.. الخ لاعتبارات من قبيل أنها ممتدة إلى عصرنا الحالي منذ الصحراء، واعتبارها مادة لقياس مديات التحديث على ثقافتنا المعنوية، لكن أن نحاسبها في وقت نشوئها متناسين بيئتها وطبيعة الحياة في ذلك الوقت، سواء في الشرق أو الغرب، فهو أمر مبالغ به كما تمت الإشارة إلى ذلك في بداية الحديث، وكما أشار بعض الدارسين لهذه الإشكالية أمثال الدكتور حاتم الصگر في دراسته المعنونة (نحو دراسات ثقافية نصيَّة) في مجلة (مثاقفات). 
في الحقيقة، الأمر يشبه أن تخبر العربي الناشئ في تلك الحقبة، ألّا يرتدي الثياب العربية ولا يتحدث اللغة الفصحى القديمة، كما لو أن الباحث يطلب من تلك الأقوام أن تكفّ عن كونها تلك الأقوام، انطلاقاً من معايير أخلاقية وإنسانية حديثة تبلورت عبر القرون!، والموضوع يشبه إذا ما خضنا في تفرّعاته أن تقول للفايكينج: لماذا أنتم فايكينج؟ من دون أدنى اعتبار لطبيعة الأرض والتنشئة والطقوس الدينية المتعلقة بالآلهة وكل تلك الصور الملحميَّة عن المجد والدم ولقاء الأجداد المحاربين المقتولين في «فالهالا» حيث يحلّون في ضيافة أودين، مقابل ذلك يصح أن ننتقد فرداً يسكن في دولة إسكندنافية حين يسلك سلوك أجداده الفايكينج في هذا العصر.
وعلى هذا يمكن الانتفاع من هذا النوع من الدراسات عند تطبيقها على نصوص حديثة لدراسة وتتبع الرواسب الثقافية للقبيلة بما فيها، وكيف تركت بصمتها على الشعراء والفنانين عامة بعد كل تلك الحقب، إلا أن ذلك وهذا هو لبّ الحديث هنا، يجب ألا يتطابق أو يتساوى في الدراسة مع نصوص قديمة وتعريضهما أي -القديم والجديد-لمفهوم نقديٍّ واحد من دون الأخذ بالاعتبار المسافة الثقافية الزمنية المقطوعة. فالنصوص القديمة هي ابنة بيئتها تلك، ولا يجب أن تحاسَب بنفس المستوى والطريقة التي تحاسَب بها نصوص حديثة. بمعنى لا يجب أن يحاسب المتنبي أو أبو تمام مثلما يحاسب نزار قباني كما فعلها الغذامي، فالأخير ابن بيئة مختلفة وإن كانت بيئة متوارثة ولها أسس ضاربة في القدم، ولكنّ بالإمكان محاسبته ثقافياً أكثر من غيره بسبب أنه مولود في عالم أرحب وأوسع وله تجارب رصينة في المجالات كافة، ولا نحاسب المتنبي كما نحاسب الجواهري وعبد الرزاق عبد الواحد ومن على طريقهما للأسباب ذاتها. فالشاعر والفنان على وجه العموم، كلما كان ينتمي إلى ثقافة حديثة، كان حسابه وفق المنظور الثقافي عامة والنقد الثقافي خاصة ثقيلاً، لاعتبارات عديدة منها التطور التكنولوجي والانفتاح على العالم وشيوع الترجمة والتعرّف على تجارب قديمة وحديثة، محلية وعالمية، من شأنها فضلا عن التجربة وترسيخها وفتح الآفاق أمامها، بما يجعلها مكتنزة بالمعنى الإنساني المثابر.
أيضاً، لسنا مضطرين إلى محاكمة القدماء بعقلية اليوم، لأن ثقافتهم المادية والمعنوية على قدر من التساوي في تلك «اللحظة الثقافية» لو صح التعبير، على عكس ما حصل فيما بعد، عندما بقيت الثقافة المعنوية تنسخ نفسها عبر الأجيال مع تغييرات طفيفة وردت عبر الأعاجم ومن حورب وقتل من العلماء والفلاسفة، فيما الثقافة المادية ظلّت تخضع لقفزات بفعل التجارة والحروب والاستعمار. وليس المقصود هنا إلا للإشارة إلى وجوب تبني تغيرات العصر ومواكبتها بدل ملاحقتها أو التأخر عنها، كي تنتج نصًا يتواءم مع جزئي الثقافة المذكورين، وإن الشعراء القدماء المنتمين إلى مرحلة ما قبل تلك التحولات ليسوا ملزمين بأن يكونوا غير ما وجدناهم عليه، وهذا لا ينفي سعي المبدعين منذ الأزل في البحث عن التمايز والاختلاف. إذن من الممكن والاعتيادي أن نجد شاعرًا جاهليًا في عصرنا الحالي ويحدث العكس أيضا، مثلما لمسناه في الأوساط الإبداعية وكما أشار أدونيس إلى ذلك في آخر حوار له في مجلة الأقلام وفي مناسبات سابقة، ولنا فيمن يكتب قصيدة نثر ويتخذها مطية للأعراق والقيم القبلية التي هجرتها البشرية مثالاً. 
هذا النوع من الشعراء هو من يستحق الوقوف عنده أكثر من غيره، لأنه لم ينتفع من كل مجموع الخبرات، وكأنه كان يعيش بمعزل عن تحولات الحركة الثقافية والسياسية والدينية ولم تؤثر عليه الظواهر الاجتماعية، وهذا دليل على موت هذا المخلوق، فالكائن الحي كائن يتغير ويتطور ويراجع ويتكيّف ويشخّص ويضيف ويختبر ويجرب في المختبر حتى يصل إلى الصيغة المناسبة التي تتلاقى عندها خلاصة التجريب والمراس والموهبة والدراية، حيث تتجلى منحة الاتزان بين توظيف التراث والانتفاع من قواعده وبين السماح للقيم الإنسانية المشذّبة بعد مرورها بكل حقول التجارب السلوكية واصطفاء أفضل ما فيها، لتشكّل الشفرة التي يستحيل النص فيها الى محض مفتاح أو سلسلة مفاتيح تتيح للمتلقي بحسب خبراته ومقوماته الوصول الى مكامنها. هذا المخلوق الذي على هذه الشاكلة ويعيش بيننا على النقود الثقافية أن تقسو عليه وتكشف عن سوءاته بشكل مستمر حتى يصبح مجرد أثر أو ذكرى، وهو أجدر بالنقود الثقافية من المتنبي وغيره ممن ينتمون الى بيئاتهم الطبيعية وطريقة عيشهم المعتادة.