للذاكرة فعل الرصاصة

ثقافة 2022/05/19
...

 هدية حسين
إنها اللحظة التي لا خيار سواها، وهي الأقسى على جندي في ساحة الحرب سيضطر الى الاستسلام، لحظة موت اعتباطي لأنها لحظة غير مدروسة جاءت من دون حساب لما ستؤول إليه الأمور، فهو برتبة قبطان في جيش فرانكو إبان الحرب الأهلية الإسبانية التي بدأت العام 1936 واستمرت لثلاث سنوات انتهت بهزيمة الجمهوريين، وأحكم بعدها فرانكو قبضته على البلاد ليبدأ عصر الدكتاتورية.
 فلماذا استسلم كارلوس أليغيريا إلى (العدو)؟، هل كان في لحظة يأس بعد ثلاث سنوات قضاها في تلك الحرب، أم أنه أراد الانتحار لأنه أدرك أن الجميع مهزوم سواء انتصر أم لم ينتصر مادام هناك قتلى؟، لكنه يبقى خائناً من وجهة نظر القانون العسكري مهما كانت الظروف.
رواية (أزهار عباد الشمس العمياء) للروائي الإسباني ألبرتو مينديس (1941 - 2004) تخلق عوالمها من تلك اللحظة وامتداداً لما سيحدث من هزائم نفسية وفظاعات وضبابية المستقبل وضياع فرص الحياة الكريمة، إنّها رواية من قلب المعارك التي أشعلت الحرب الأهليّة، إذ تبدأ من لحظة استسلام كارلوس أليغيريا عندما اندفع نحو (العدو) رافعاً يديه، وصاح بأعلى صوته: أنا مستسلم، وكانت القذائف ماتزال تسقط على مدريد، إلا أنه وقع بقبضة جماعته واقتيد الى زنزانة واتهم بالخيانة، وطالب المدعي العام بإعدامه. الزنزانة في سرداب عفن الرائحة، مظلمة، وكان ثمة أسير فيها من الجمهوريين، رثَّ الثياب بالكاد يُرى، اثنان مهزومان من طرفي المتحاربين والتهمة واحدة، الخيانة، وبعد أيام قليلة توافد إلى الزنزانة عدد من المهزومين من بينهم جريح ليضيق بهم المكان ويتنفسوا بصعوبة، وبقي كارلوس أليغيريا ثلاثة أيام في تلك الزنزانة ليُساق الى محكمة حكمت عليه بالإعدام. قبل ذلك علينا أن نعرف بأنَّ كارلوس أليغيريا تربى في أسرة من أصول نبيلة أثرت عن طريق التجارة في زمن مجاعات الجنوب، درس القانون، والتحق بالثوار، وكانت الحرب بالنسبة إليه (أن يجمع ويودع وينظم ويقسم ويدير كل ما يحتاجه الآخرون ليُقتلوا ويموتوا وينتصروا على عدو لم يره قط عن قرب) ص21.
وبقي في جبهات القتال لثلاث سنوات فتغيرت أفكاره، وبين الحكم عليه وتنفيذ الإعدام تسعة أيام تحول فيها الى إنسان آخر منهك القوى يلفه فراغ رهيب، وفي الزنزانة التي امتلأت بـ (الخونة) تعرف على العديد منهم، وهناك زنازين أخرى رُتبت بحسب درجة الخيانة، وفي كل يوم تخرج وجبة للمحاكمة السريعة ويُحكم عليهم بالإعدام، فينتظرون موتهم وهم ميتون من التعذيب والإهانة والوقوف لساعتين بينما الوجوه الى الحائط عقاباً كلما حدثت فوضى، وكان كارلوس إليغيريا منهكاً بدرجة كبيرة قبل أن يلقى عليه القبض ليجد نفسه بعد الحكم عليه في قبر جماعي بدماء متخثرة وتراب يغطي جسده بعد أن أطلق الرصاص عليه ومن معه ودفنوا، كان 
على قيد الحياة رغم الإصابة (إن السرعة في القتل تمنع من أن يكون الموت متقناً، لقد أصابت رصاصة أعلى جبهته ومرت بمحاذاة جمجمته من دون أن تكسرها، وخرج من القبر الجماعي حيث لم يكن التراب كافياً ليغطيه) ص98 وهكذا واصل هروبه لفترة طويلة، كان الوقت ليلاً فمشى بصعوبة حتى وصل الى إحدى القرى وتلقى علاجاً سريعاً من القرويين، كانوا يمدونه بقليل من الطعام ليبقى على قيد الحياة، وما إن تحسنت حالته قليلاً حتى ترك المكان، أراد أن يصل لمكان أكثر أمناً، هروب محفوف بالمخاطر وجروحه ماتزال متقيحة، وبعد رحلة طويلة وصل الى القرية التي يقصدها، صومو سييرا، وانتهى به الأمر الى منزل متهالك.
لم تقتصر الحكاية على بطلها إليغيريا بل هناك قصص لسجناء من بينهم عازف كمان، ورئيس تحرير إحدى الصحف، والسجين خوان الذي كان يُسرِّب الرسائل لأخيه، لكن القصة الأبرز بعد قصة كارلوس إليغيريا كانت قصة الشاعر ميغيل الذي هرب مع زوجته الحامل إلينا، إنها قصة ليست أقل فجيعة من قصة كارلوس، كان الشاعر ميغيل يكتب قصائد ليؤجج نار الثورة، ولجأ الى الطرق الوعرة فداهم زوجته المخاض وولدت طفلاً لتموت بعد ولادته، لم تُعرف قصته إلا بعد أن عُثر على هيكله العظمي وبجانبه دفتر كان يكتب فيه يومياته عن إلينا والطفل البكّاء الذي يموت بعد ذلك من الجوع والبرد، وهي قصة مؤثرة عن حيرة أب لا يعرف كيف يطعم الرضيع حيث يعيش في مكان معزول، يوميات تعد وثائق، ليس بالضرورة أن تكون وثائق حقيقية إنما تقنية لجأ إليها ألبرتو مينديس لتعزز من تنوّع السرد، إنها هزيمة أخرى وماتزال هناك هزائم، فهل أراد المؤلف بموت الطفل أن يقول لنا بأن المستقبل قد مات؟ هذا ما حصل للجمهوريين بعد ثلاث سنوات من المقاومة، وها هم في الزنازين المعتمة القذرة سيلحقون بمن أعدِموا، والذاكرة تضغط عليهم بما يشبه الحنين وللذاكرة فعل الرصاصة، ودائماً عند الساعة الخامسة فجراً تُساق وجبة منهم الى كتيبة الإعدام ويقتلون بلا رحمة، حيث لا حياة بعد ذلك، وثمة تدخلات من بعض الأسر المتنفذة والتوصيات الخاصة تُخرج بعضهم من حكم الإعدام الى السجن، والسجن موت بطيء لا يتمناه الكثيرون لأن الموت أرحم من الإهانات التي يتلقونها، إنهم، سواء كانوا قبل الحكم عليهم أو بعده، يعيشون كابوساً مرعباً وضع ألبرتو مينديس شخصياته فيه، إذ ليس في الرواية من فسحة أمل أو نافذة نرى من خلالها نسغاً للحياة، كابوس طويل لا نهاية له، وليس ثمة حيز لما هو إنساني، الكل سواسية في العقاب حتى الذي شارك مع الجمهوريين من دون مُثل عليا، لقد فعلها البعض كما لو أن الحرب لعبة عليه أن يلعبها، وعندما دخلوا نفق الكابوس راحوا يبحثون عن خلاص من ثقوب الخوف.
رواية أزهار عباد الشمس العمياء رواية الزمن الذي توقف في إسبانيا في تلك الفترة، حيث توالت الانكسارات والهزائم والمحاكمات والموت الذي طال الجميع ممن قاوموا جيش فرانكو، سواء كانوا من عامة الناس أم من الشخصيات المعروفة، ومن بينهم، بل أشهرهم شاعر إسبانيا العظيم فريديكو غارثيا لوركا الذي أعدم في طريق جبلي مع اثنين من رفاقه ولم يُعثر له على أثر، ومايزال مجهول القبر لكنه يعيش في الذاكرة بينما القتلة لا أحد يعرف أسماءهم.. صدرت الرواية في العام 2018 عن دار ميسكيلياني بترجمة عبد اللطيف البازي.