جوزيف برودسكي.. روح يبحث عن جسد

ثقافة 2022/05/21
...

 ديان شاربر  
 ترجمة: محمد تركي النصار
عندما انتهت الحرب العالمية الثانية. كان الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1987 جوزيف برودسكي يبلغ الخامسة من العمر، لكنه وبرغم صغر سنه ظل في شعره وحياته يتذكر الكثير عن الفترة التي أعقبت الحرب بكل ما ساد فيها من فوضى واضطراب.
 ومن بين تلك المشاهد المؤلمة يبرز مشهد رجل مسن أصلع يمشي على ساق خشبية حاول عدة مرات الصعود في إحدى عربات قطار، لكن الناس كانوا يحاصرون هذا القطار مثل (حشرات شرسة) وفي كل مرة كانوا يدفعون هذا الرجل بعيدا، وبعد أن تحرك القطار تمكن هذا الرجل من الإمساك بمقود إحدى تلك العربات فما كان من إحدى النساء إلا أن ترفع الغلاية وتسكب الماء الساخن على رأسه، مشهد محزن ظل برودسكي يتذكره دائماً مستعيداً مشهد سقوط الرجل الذي لم تكن لتسعفه لحظتها آلاف السيقان 
الخشبية.
أصبح برودسكي مواطنا أميركيا عام 1977 بعد أن تم نفيه من الاتحاد السوفيتي السابق، وعمل في التدريس الجامعي للأدب في كلية ماونت هوليوك والعديد من الجامعات الاميركية من بينها جامعة كولومبيا وجامعة ميشيغان، ونشر العديد من الدواوين الشعرية، فضلاً عن كتابه النقدي (أقل من واحد) الذي فاز بجائزة الكتاب الوطني لرابطة النقاد عام 1986، وتقديرا لمنجزه الابداعي الكبير منح جائزة نوبل للآداب عام 1987.
ولد جوزيف برودسكي في الرابع والعشرين من شهر آيار عام 1940 في مدينة سانت بطرسبورغ الروسية ويعده الكثيرون من أعظم الشعراء في كل العصور والعبقري الذي تبوأ مكانه الذي يستحق بين الخالدين.
 وقد هجر المدرسة في سن الخامسة عشرة لكنه ثقف نفسه بجدية نادرة وقرأ الكثير في الفلسفة وعلم اللاهوت والميثولوجيا والأدب وتعلم اللغة البولندية التي منحته الفرصة للاطلاع على تجارب كبار الكتاب الذين لم يترجموا إلى اللغة الروسية ومن بينهم جوزيف كونراد، مارسيل بروست، فرجينيا وولف، وليم فولكنر، ميلوش، وترجم الكثير من الشعر البولندي الى اللغة الروسية.   
  في عام 1958، عندما بدأ برودسكي بكتابة قصائده قرر خروشوف استغلال جميع طاقات المجتمع السوفيتي لخدمة النشاطات الاجتماعية، وبسبب موهبة برودسكي واستقلاله في التفكير تم إلقاء القبض عليه ثلاث مرات وواجه العواقب ليس لجرم سياسي بل بسبب (جريمة) كونه كاتباً.
ومن المحطات المثيرة للاهتمام في تاريخ هذا الشاعر ما عُرف بـ «مُحاكمة برودسكي». ففي شباط/ فبراير من عام 1964، اعتقلت السلطات السوفيتية الشاعر على خلفية اتهامات تبعث على السخرية والغرابة، يجمعها سياق بأنّ برودسكي الشخص والشاعر يُفكر خارج الصندوق، وضد تيار سلطة الرؤية الرسمية للأدب. 
وقد تعرّض برودسكي إلى سلسلة أسئلة بأنه مُتبطّل، ومتمرّد على الجماعة، ولأنه اقتحم الساحة من دون المرور أو الخضوع للقنوات الرسمية، وقد اعتبرت قصائده شبيهة بـ «منشورات سرية» مُبلبلة للسلطة التي لم تُرضها النظرة التشاؤمية للعالم، وما تنطوي عليه مخيلة النصوص من جموح وتمرّد.
وبهذه العلل العليلة حكمت المحكمة على برودسكي بالسجن خمس سنوات مع الأشغال الشاقة المؤبّدة. بعد عامين، وتحديدًا في عام 1966، أطلق سراحه وذهب ليعيش في الولايات المتحدة الأميركية منذ عام 1972، بعد أن طردته السلطات السوفيتية من كل البلاد.
يقول برودسكي نفسه – وهو الحالم بكتابة كوميديا إلهية شخصية – «عندما نغادر البلدان التي طُردْنا منها، تصبح الخيبة عنصرًا في الوجود، وتقل حماستنا الحيوية التي تحتاجها المشاريع الكبرى».
وفي قرية نورنسكايا قرب الدائرة القطبية التي نفي اليها، وتم تعذيبه هناك كتب قصائد يتذكر فيها وطنه المفقود، وقرأ الأدب الانكليزي مستخدما قاموساً روسياً – انكليزياً، ونجح بترجمة قصائد لشعراء من الانطولوجيات الخاصة بالشعر الانكليزي والاميركي.
 (أتذكر عندما كنت أجلس هناك محدقاً من فتحة صغيرة في الشباك 
بالطريق الرطب الموحل الذي يتناثر فوقه عدد من الدجاجات، متسائلاً ما إذا كانت لغتي الانكليزية تساعدني على الفهم فلا أخون ما كنت أقرأ وأترجم من القصائد مستعيداً قولاً للشاعر أودن: (الزمن يعلي من شأن اللغة ويسامح كل شخص تعيش في داخله).
  لقد أعجب برودسكي كثيراً بالشاعر أودن عاداً إيَّاه الشاعر الأعظم في القرن العشرين، مظهراً مهارة استثنائية بكتابة قصائد شخصية تتميز بالتكثيف العالي متناولاً ثيمات الحب والتذكر، وتدريجياً أصبحت اللغة بوصفها قوة إبداعية واحدة من أبرز همومه: الشعراء لا يستخدمون اللغة، يقول برودسكي في الخطاب الذي ألقاه في استوكهولم خلال منحه جائزة نوبل، اللغة هي ما تستخدم الشاعر وتعيش في داخله آخذة إيَّاه إلى البداية حيث في البدء كانت الكلمة.
وإذا كان ما يميزنا عن الحيوانات هو اللغة، كما يقول الشاعر، إذن فالشعر هو الأسلوب الأرقى وهو هدف الجنس البشري، الذي يضاعف طاقة الوعي، فالشخص الذي يكتب قصيدة يفعل ذلك لأن اللغة تحثه على القيام بهذا الفعل، وليس العكس، وهذا الحث كما يقول برودسكي هو اللحظة التي يجتاح فيها مستقبل اللغة الحاضر، اللغة كما يصفها الشاعر تقذفنا في المستقبل وتجبرنا على تذكر الماضي، وبهذا التذكر نصنع الفن، الفن لا يهرب من الحقيقة، بل انه ينعشها، (الفن هو الروح التي تبحث عن جسد، وبدلا من ذلك تعثر على كلمات)..
 
 قرى حجريَّة
 
قُرى انكلترا الحجريَّةُ
كاتدرائيةٌ معبَّأة في نافذةِ حانةٍ.
أبقارٌ منتشرةٌ عبرَ الحُقُول
نصبٌ تذكاريةٌ لملوكٍ
رجلٌ ببدلةٍ مخرَّمة من آثار العثَّ
يراقبُ قِطاراً مُنطلقاً
ككلِّ شيءٍ آخرَ هنا باتجاهِ البحر
يبتسمُ لابنته وهي تغادرُ إلى الشرق
صفيرٌ يتعالى
والسماءُ اللامتناهيةُ فوقَ القرميد
تغدو أكثرَ زرقةً
كلَّما تعالتْ أغنيةُ العُصفور.
 
* عن موقع بولتيمور سن