رحيل الكبير مظفر النواب في المحطة الأخيرة.. نلوح لحمد

ثقافة 2022/05/21
...

 بغداد: الصباح
 
رحلَ أمس الجمعة 20/ أيار الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب، في مستشفى الجامعة في الشارقة بدولة الإمارات العربية عن 88 عاماً، بعد صراع طويل مع المرض. اشتهر النوّاب الذي وُلد في بغداد عام 1934 ودرس في جامعة بغداد بهجاء الأنظمة القمعية والفساد السياسي والظلم عبر قصائده الثورية القوية وبالقسوة اللاذعة. كما وعاش النوّاب في المنفى بالعديد من البلدان قبل أن يعود إلى العراق في عام 2011.  فرحيل أحد سدنتها اليوم يعد ثلمة كبيرة شهدتها الحداثة الشعرية العراقية، رحيل النواب العظيم رحيل لمركزية حداثية طالما نهلنا من روافدها الغزيرة، كيف لا وهو الذي أعاد تشكيل البلاغة بمختلف مرجعياتها، بحسب رأي الناقد د. عمار الياسري، إذ لم يعد الدال والمدلول والمشبه والمشبه به على وفق الثنائيات التقليدية، بل صنع تراكيب بلاغية مفارقة تخاتل السائد وتنتهك المألوف وتبتكر علاقة جديدة خارج الاتفاقيات السيسيولغوية بين الوجود المتمثل بالأناة الشاعرة والموجود المتمثل بالحبيبة المفترضة أو الوطن 
المستلب.  
 
الحرية والشعر والحياة
ويضيفُ الياسري أن التجديد الشعري في مشغل الشاعر النواب لم تحده اللغة سواء أكانت من المحكي اليومي أو من اللغة العربية الفصحى، فالابتكار البلاغي والصياغات الصورية والتراكيب البلاغية تعد طبقة فوقية وما اللغة إلا الوسيط التعبيري الذي تتمظهر القصيدة من خلاله، ففي قصيدة البنفسج حينما يقول (چانن ثيابي عليَ غربه گبل جيتك ومستاحش من عيوني و على المامش حنيني) نلحظ الاغتراب الوجودي الكبير الذي تمور به الذات الكاتبة، إذ أصبحت الحمولات المادية المتمثلة بالثياب التي تسور الشاعر عبارة عن عوالم مفارقة بسبب السلطات القهرية التي جعلت من الدلالة تتخلى عن اتفاقيتها التي ارتبطت بالنستالوجيا، بل حتى الطروحات الفلسفية للظاهراتية التي تحدث عنها جاستون باشلار من أن مكان الطفولة والصبا هو المكان المألوف خرق سننها مشغل النواب الشعري، ليس على مستوى التشكيل اللغوي الشعبي فحسب بل حتى على مستوى القصيدة الفصيحة، إذ يقول (وأما الآن فحانات العالم فاترةٌ ملل يشبه علكة بغي لصقَتهُ الأيام بقلبي) فعلكة البغي دلالة وجودية مريرة تجسد مقدار الاستلاب الذي تعانيه الذات الإنسانية بسبب السلطات الاجتماعية والسياسية والثقافية وبسبب ثقافة الاستهلاك التي بمجملها حولت الإنسان إلى آلة تحركها كيفما تشاء، لذا دعا في نصوصه السياسية ذات الصور الشعرية الجديدة والتراكيب اللغوية المغايرة إلى تحرير الإنسان المستلب من سطوة السلطات بمختلف مرجعياتها.   ويشير إلى أنه ومع رحيل النواب الجسد سيبقى النواب المنجز مشغلًا بنيويًا كبيرًا للساعين وراء التفرد والمغايرة، فالمدرسة النوابية تنأى بنفسها عن أدران التقليد والمشابهة، والمدرسة النوابية مدرسة المثقف العضوي الساعي إلا التغيير لا التطهير فقط وإذا خسرنا جسده الطاهر بمرارة لاذعة فروحه العظيمة باقية فهي النور الذي ينير دروب سعاة الحرية والشعر والحياة، لترقد روحك بسلام ويبقى الشعر صامدًا في ذاكرة الخلود.
 
رحيل بستان الرازقي
يأخذنا الموت ُ دون َ أن نراه ،
وكأن َّ هذا المنتصر َ أبدا ً ،
هارب ٌ أبدا .
 
أدونيس
يرى الشاعر ريسان الخزعلي (إنه الموت) الموت لا يشيخ، وكأنه ولادة مستديمة. جميع المخلوقات كما تقول الفكرة الإغريقية، تذهب إلى الموت إلا الإنسان، الموت يذهب إليه. وهكذا يرحل/ مظفر النواب/ إنسانا ًوشاعراً ومناضلاً..، خطفه ُالموت جسداً، لكنه لم يستطع أن يخطف هذا الحضور البهي/ العالي. حضور سيستمر طويلاً في ذاكرة الشعر والموقف النبيل.
ويقول إن مظفر النواب، النبع الذي يسهر.. (يافيّ النبع واطعم، عطش صبّير ولا فركَاك). مظفر النواب، في رحيله يمنح الحياة بعدها السرّي، البعد الكامن في النقاء، إنه (بستان الرازقي) الذي يقاوم النسيان.
وكم من قطار سيمرُّ، وسيتلاشى صوت عجلاته  وصفيره، غيرَ أن َّ قطار (مرينه بيكم حمد) سيبقى مدوّياً. ويعتقد الخزعلي أن مظفر النواب، سرقنا من حُبِّ أولادنا، أحبّوه من صدى حبنا له، وقد قطفَ الحبّين. ويضيف نعم يا مظفر: الهور، صويحب، سفن غيلان ازيرج، حچام البريّس، حِسن الشموس، أبن ديرتنه حمد، مضايف هيل، ليل البنفسج.. علاماتك هذه، أعلنت الحداد مدى الحياة.. الشاعر يبقى ويموت الدكتاتور.
رائحة الحناء والمطر
أما الناقد د. نصير جابر، فيقول: حينما سمعتُ الخبر (مات مظفر النواب) شعرتُ بأنّ حلماً عصيّاً على الأفول عشناه في (ليل البنفسج) تهشّم الآن، في شمس الصحو المقرفة الموجعة.. مظفر الواقعي حدّ اللعنة.. حمل السلاح وحارب في جبهات الموت الأمميّة من أجل فكرة العدالة التي عشقها. 
ويضيفُ أن "مظفر الحالم حدّ التخمة، علمنا كيف نحب.. كيف نتحرّق شوقاً للعيون السوداء في محطات الوداع، وكانت حروفه تسعفنا دائماً عندما يهرب الكلام.. مظفر رائحة الحنّاء والمطر والصباحات الأليفة.. مظفر.. المعتقلات والسجون..  نكرة السلمان وسجن الحلة والمنافي والقطارات والمطارات.. غادر بعد أن رسم اسمه بقوة على خريطة المجد الإنساني. 
ويشير إلى أنه قال كلّ ما يمكن أن يقال وفعل كلّ ما يمكن أن يفعل.. مظفر لبنة بيضاء في تأريخ الجمال والحلم.. والنضال من أجل رفعة الإنسان.. شاعر كتب بلغتين لأنّه كان يؤمن بأن اللغة أخطر من أيّ سلاح.. (يا ريل..) سنصرخ الآن بحنجرة تتشققّ مرارة.. وداعاً. 
 
الجنوح الإنساني
أما الشاعر طالب عبد العزيز، فيرى أن التراب الذي سيضم شدَّة الياسمين على انتمائه المعلن كشيوعي كبير، ومختلف، لم يجتمع العراقيون على اسم أو موقف كاجتماعهم على شاعرية ووطنية مظفر النواب. ويقول: "لقد كان رايةً حمراءَ، خضبت بالدم لكل موقف سياسيّ وشجاع، وقصيدةً خالدة في روح كلِّ عراقي، تغرب في البحث عن هويته وآدميته، فهو الشاعر العراقي الوحيد الذي عرفه وأحبّه العرب، من خلال شعره الشعبي.  ويضيف: سيجد الباحثون، صعوبة بالغة في التفريق بين شعره وموقفه الوطني وجنوحه الإنساني. كيف لا وهو العراقي الوحيد الذي ينتمي إليه العراقيون، ويمثل الجميع، على اختلاف الأهواء والمذاهب والانتماءات.  ويعتقد أن النواب حظي بما لم يحظ به شاعر عراقي، فلا السيّاب، ولا الجواهري ولا البياتي ولا كثير غيرهم سلموا من القدح بسيرهم هنا أو هناك إلا هو، فقد ظل شيوعياً، مبرّءاً من كل الظنون. ويشير عبد العزيز إلى أنه حين مات الروائي البرتغالي، الشيوعي، صاحب نوبل جوزيف سارماجو (1922 - 2010) قال عن موته خوان خيلمان:"هو الذي وحّد شبه القارة الايبرية بموته، وهو الذي اجتمع اليمين واليسار على تشييع جنازته". مظفر الشاعر العراقي الوحيد الذي وحد العراقيين وهو الوحيد القادر على قول: "مو حزن لكن حزين.. مثل ما تنكطع جوّه المطر شدّة ياسمين".
مظفر النواب الاستثناء الشعري
ويصف الناقد علوان السلمان مظفرالنواب بالاستثناء الشعري.. الإنسان.. المغني للحياة بعوده وريشته المنغمسة بألوانها.. المتمرد..المنفي..المنتج إبداعاً شعرياً برغم انتقالاته التي لا تعرف السكون بسبب ملاحقة خفافيش الظلام له على أرض الله، والتي أضفت على شعريته الخطابية المنبرية تلقائية التفاعل مع مفرداته المنتفضة، الداعية إلى الحرية والتحرر.  ويقول: إنه شكل ظاهرة متفردة بنصه النابض بالمغامرة والمتصف بالجرأة الحقة.. فكانت اشتغالاته الشعرية تحتضن الواقع بكل موجوداته الطبيعية (الهور/ القصب/ الطين/ الطير/ الحزن/ الوطن...).. وقد حولها بنسجه الشفيف الجاذب إلى مصادر حسية ونفسية..
عساها تخضر التينه
اونمد ابفيها لسواليف راحة بال
وخبزة وستكين جاي يكفينه
ويضيف أن خصوصية القصيدة النوابية تكمن في حلولها داخل مسامات الوجود المجتمعي وتفاعلها معه، حتى صارت جزءاً من مكونه الفكري والحياتي الخطابي، كونها تمتلك شروطها الفنية ومعاييرها واشتغالات منتجها التي تؤشر أسلوبية بنائها الجاذبة للمستهلك (المتلقي) لطراوة الفاظها وواقعية صورها، لأنها نتاج مستل من البيئة التي يستأنس بها، والتي منحت نصه انتماء رؤيوياً تجسد في خصائص شعر الحداثة بصورته الشعبية من خلال استحضار الذات الجمعي الآخر. ويعتقد أنه وعلى إثر ذلك كانت لسان حال الطبيعة والتزامها التفعيلة واختلاف طول أسطرها الشعرية محققة لمستويات الحياة وحركتها المعاصرة، أسوة بالقصيدة الفصيحة، فصارت مغازلة للنفوس..قريبة من مشاعر وأحاسيس المتلقي، لأنها تعكس صورته وتحمل همومه التي داعبت ذهنه ورسمت طموحاته حتى صارت جزءاً من كيانه..فتراقصت حروفها على الشفاه وتوزعت على أوتار العاشقين.
ياطعم ياليلة من ليل البنفسج
 ياحلم يمامش بمامش طبع قلبي من اطباعك ذهب
ترخص واغليك واحبك
انا متعود عليك هواي ياسولة سكتي
ياطواريك من الظلمة تجيني 
جانن ثيابي علي غربه قبل جيتك 
ومستاحش من عيوني.. وآلمتني
وعلى المامش علمتني.. 
وقوله: 
حن وانه حن.. وانحبس ونه ونمتحن
مرخوص بس كت الدمع.. شرط الدمع حد الجفن
*****
جفنك جنح فراشه غض.. وحجارة جفني اوما غمض
يلتمشي بيه ويه النبض.. روحي اعله روحك تنسحن ..  حن وآنه احن. ويشير إلى أن المنهج النوابي في بناء نصه الشعبي يقوم على الرموز القابلة للتأويل باشغال فكر المستهلك (المتلقي) ونبش خزانته المعرفية، كونه يركز على الفكرة والصور الحسية المنطلقة من واقعها المتشظي..الذي يشكل صوراً قائمة على الخطاب الحياتي والفني المختفي وراء رمزية شفيفة تخاطب الوجدان وفق معيار حداثي له التزاماته الموضوعية..
ويقول: إن "التجربة الشعرية النوابية صدرت عن رؤية تتجذر معطياتها في أعماق تاريخ المعارضات السياسية القائمة على مدى مراحله الزمنية".