عن ذلك الجمال وذلك المعنى

ثقافة 2022/05/22
...

  ياسين طه حافظ
هذا الموضوع جديد طرحه. ربما جاء بصيغ تعبيرية أو بتسميات أخرى، لكن ما أردته تحديداً أننا ننقذ بعضاً من شخصياتنا في العمل بمؤثرات من ثقافتنا. يمكن القول تلقائياتنا الإبداعيَّة ويمكن القول، ضرورة أن نكتب أحياناً خارج النظريات، نظريات عموم الفنون، هنا ساعات تحرر، وساعات نقاء الشخصيّة. فجرها البكر، هل معنى هذا أن يعمل واحدنا في عزلة؟ نعم عزلة ظرفية وعزلة عن توجيهات الخارج للكتابة. هل كانت الكتابات السومرية، نحتهم، كذلك؟، وهكذا هو إيماني – وربما ذلك سبب أصالتها وجوهرها دائم الاشعاع مئات من تلك الإشراقات. ولذلك، أو بسبب ذلك، كان وراءها أكثر من مبدع أو منشد أو راءٍ أو راوٍ.
لا يضيرها تعدد أصحابها - ساعات نقاء توالت من هذا ومن ذاك وربما من هذا المكان وحتى ذاك- لم تكن وراءها نظرية ولم يكن تقدم نقاده. لم يكن فلاسفة يحددون الصواب أو الأفضل. كان الكاتب وكتابنه، الشاعر وشعره. أصالة كاملة، تامة، صعب أن تتكرر.
اسأل نفسي، لماذا هي نتاجات خصيبة دائمة الحيوية وتحتفظ بإشعاعها وربما كمالها؟.
كل نص يتحدث عن موضوعته - التي هي أيضاً موضوع ذات الشاعر، أو الكاتب. حين الكتابة عن الشيخ فهي عن الكاتب. شيخاً حتى الكتابة عن  الفرح الإعلان عن الذات؟ الكتابة للكتابة. والذات في العالم منتجة للعالم. هي من العالم وعنه.
ما أضر بكل الكتابات، هو بيع الكتابة - أعني الكتابة انتفاعاً، إرضاءً أو إستجابة أو عملاً بأجر! صانع الأغنية السومري يكاد يسمعنا صوته: لقد صنعت أغنيتي من ملء فمي، من الهواء!، وهذا ما توجه له بعض نادر من شعراء العصر ولكنهم لم يعطوا النفس كلها ولم يتماهوا والموضوع كله. 
السومري كان موجزاً، كان مقتصداً باللغة وبالحب وبالكراهية وكان مكتملاً بالصدق فهو ساعة يكتب أو يرتل أو ينقش، هو والموضوع لا فاصل ولا عارض ولا انشغال طارئ- ينتهي حين ينتهي! حتى لا تفكير، ولا انشغال بالعاقبة – كتابة وانتهت. وقبلها كتابة وابتدأت – هي ملكه وهو ملكها! فرديّة نقيّة، لا يحس بالخسران ولا يعانيه. كان يوجد محاربون، يوجد عبيد، يوجد كهان، لكن تنتاب الفرد حال يصبح هو وحده، ذاته وحدها، مقطوعاً عن كل هذه الصفات.
ليست تخلفاً هذه العقدية، النفعية التي تتلبسنا، فيما تلا من أشعار وفن. لكنها إنعطافة في الاتجاه خطرة، أما أن تكسب جمالاً جديداً أو تخسر المعنى. 
الفن الجديد، الإبداع الفني، شعراً أو رسماً أو نحتاً أو نقشاً على حجر، ليس لعبة لنخسر أو نربح، لتربح أو تخسر. حينما يكون الظرف البيئي والمجتمعي أساساً، معاباً حين يكون جمال الوسط مرتبكاً، نقترب إلى السوق، إلى خليط الغش والأصيل والزائف والكامل والمنقوص.
هنا التجربة الخطيرة في الإبداع الإنساني بعد افتقاد البراءة الأولى. إن لازم الفن الجوهرَ والنفع، أما أن يبقى فناً للإنسانية أو يحول سلعة آنية.. هذه الاحتمالية القاسية، هي ميدان النقد الجيد، لا نقد المساومات والموازنات. في كل المقارنات يبقى القياس الحق مدى القرب من النقاء، مدى الإخلاص للجوهر. هل هو لغو للإرضاء الذي هو انتفاع أم هو فن لله وللإنسانية والمعنى؟، أنماط الإبداع قرينة بمستوياته أيضاً. لك أن تسَرّ، لك أن تنتفع، لك أن ترى لتفيد وتفيد، لكن الحذر والتردد من افتقاد الآصرة!، من أن تكون بعيداً وأن تغيب الروح.
ما أردنا التجارة لذاتها ولا أردنا الحكمة زينة لبوابة متجر. كل حديثنا أن نصنع، أن نخلق، أن نزهر فناً وفناً للإنسان، لمعناه الدائم الجليل. كيف لنا بهذا وهو صعب المرتقى بعيد السلم؟ وثمة بشر يريديون بهجتهم وناس لا يبخلون عليهم بالإبهاج، وآخرون لا يريدون خسارة الانتفاع، والتكسّب قديم معروف؟، كما أنها ليست مسألة دون وسمو، ولا مسألة أقرب للخير أو أقرب لجمال لا نريد
خسرانه. 
لا انحياز، ولكنه تشخيص للنبالة وتشخيص للداء أو النقصان، يكون الكلام معوزاً للعافية إذا أدنت شاعر الخبز والنهار، هو يحاول إيصال خيط لضوء لكن وسط أغلفة وانحرافات. وقد لا يكون في نسيجه أي خيط ضوئي، وهنا الخيبة وهكذا هي سلة الطارئ
الفارغة. 
أولاء يشوّهون السمعة ويخلطون بين النوايا والغايات. لهؤلاء الفوضى يضيعون وبضاعتهم المغشوشة فيها، وإذا كان المنشدون لله والمعنى هم الخالدون، والمنشدون عن العذاب ومحنة الإنسان يُقدمون قرابين، فنحن بين حين وحين ننتبه لما خسرناه ولما يهدد الآمال الباقية، ولكي نستريح نتذكر الأصوات الفضية الأولى، فنقرؤها كما نتقرب للضوء، كما
نصلي. 
المشترك بين الفئة المباركة الأولى والفئة الأخيرة، هو البهجة الأبدية فيما أبدعو ويبدعون، وهل هي مشعة دائماً أم تبرق خطفاً.. لا تقرأ خطأً لم يكن الكلام عن الصَدفَة، كان الكلام عن حماية الفن والفرح بسلامة
المعنى!