النخلة والحَيران

الصفحة الاخيرة 2022/05/22
...

عبد الهادي مهودر
 
تنتاب العراقيين حَيرة واستغراب شديدان عن واقع النخلة ومستقبلها في بلاد الرافدين، وعن تراجع أعدادها، فما عُرفت أرض العراق بأنها أرض السواد إلا لكثرة بساتين النخيل، التي كانت بالنسبة لنا كتلاميذ في المرحلة الابتدائية أجمل وأسهل منظر طبيعي، حين يكون الدرس (ارسم منظراً طبيعياً تحبه) وكأنها رسمة من القلب، جذع وسعفات خضر وعذق (و ياعثگنا، وياعشگنا) لأقرب أشجار الأرض إلى قلوبنا، عمتنا الساكنة في الجنة الواجب إكرامها والإكثار منها، ومع كل هذا الحب والتكريم الذي ندّعيه فنحن نقطع رؤوس النخيل ونسقي جذورها نفطاً أسود لتموت النخلة واقفة تشكو حالها وترفع آخر سعفتين متيبستين نحو السماء من ظلم ذوي القربى والاعتماد على النفط (كمعيل وحيد) للدولة والأسرة العراقية.
وللنخلة والجيران حكاية عراقية عجيبة وحزينة قبل أن تكون رواية أدبية عراقية، إليكم ملخصها: في عام 1958 كان العراق الدولة الأولى بترتيب دول الجوار والعالم حسب عدد النخيل الذي بلغ نحو 32 مليون نخلة تقريباً، عندما كان عدد النخيل في العالم 87 مليون نخلة، متفوقاً ثلاثة أضعاف على عدد النخيل في إيران وأربعة أضعاف على باكستان تليه الجزائر والمغرب وبقية الدول العربية ثم إسبانيا وأميركا وبقية دول العالم، في وقت كان عدد نفوس العراق نحو سبعة ملايين نسمة أي بمعدل أربع نخلات لكل مواطن عراقي تقريباً، لا أقول غير يا للهول أمام لغة الأرقام، فقد كانت المساحة المزروعة بالنخيل نحو مليار وخمسمئة مليون متر مربع وتشكّل 40 بالمئة من الإنتاج العالمي، ومتوسط إنتاج النخلة المثمرة يبلغ أكثر من أربعين كيلوغراماً في السنة الواحدة ومعدل إنتاجها السنوي يصل إلى أربعمئة ألف طن، وعدد الفلاحين هو ثمانمئة وثلاثون ألف عامل، إضافة إلى أربعين ألف عاملة في صناعة التمور، ونحو خمسين من الشركات والتجار المصدرين، بينما يبلغ عمر النخلة الواحدة بين 100 إلى 200 سنة وطولها بين 20 إلى 30 متراً، وأرقام مذهلة أخرى جعلت من التمر العراقي صورة غلاف تتصدر المجلات العربية بعنوان (قصة 32 مليون نخلة تنتج أحلى تمور العالم) حين كان تمر العراق مثل القطن لمصر والتفاح للبنان، كما جاء في مقدمة التحقيق الصحفي الذي نشرته مجلة العربي الكويتية في عددها (رقم واحد من شهر كانون الأول عام 1958) وعذراً لكثرة الأرقام في هذا المقال، لكني كمواطن عراقي حَيران وعندي لوعةٌ وأنت مثلي حيران والناس حيارى في عدد النخيل اليوم وعدد الأشجار الأخرى ومساحات المناطق الخضراء في الوقت التي تهب على بلاد الرافدين عواصف ترابية خانقة، ومع تراجع زراعة النخيل وتجريف البساتين المستمر وتراجع المساحات الخضراء، قد تكون احصائيات أكثر المتفائلين بمستقبل غير زاهر للنخلة العراقية، وبأربع عواصف ترابية لكل مواطن بدل الأربع نخلات .