سينوغرافيا المدن والعروض المسرحيَّة

ثقافة 2022/05/23
...

 أ. د. باسم الأعسم
 
من أسرار جماليات المدن احتفاؤها بفضاءات سينوغرافية ساحرة، سواء في النهار أو الليل، وفي المجالين الطبيعي أو الاصطناعي، فالمدن بمثابة كتل فخمة عائمة في فضاء مترامي الأطراف، وعندما تحاط بها الأشجار الباسقة، والعمارات الشاهقة، والأبراج الشائقة، ذات الألوان الجاذبة والإضاءة الملونة، فإنها تبدو جميلة ومؤثرة، إذ تأتلق في فضاء تشكيلي مدهش، وباعث على البهجة.. والمسرة، على الضد من المدن الصحراوية فلا فضاء يحيط بها سوى السماء والرمال، فتستحيل إلى أرض يباب، مثلها مثل بعض العروض المسرحية الحوارية التي تعول على فضاء اللغة والمضامين، فتبدو متصحّرة من فرط عريها الجمالي الشكلي ويدفع ذلك الجمهور بلا شك. 
ومثلما أن المدن يجملها المعماريون التشكيليون، فالعروض المسرحية هي الأخرى تشاد من قبل مصممين سينوغرافيين ماهرين يضعون مخططاتهم بالتوافق مع رؤى المخرجين الفنية، لكي تكون العروض المسرحية على قدر كبير من السمو والبهاء والروعة والنقاء.
إن روعة السينوغرافيا في تجميل الفضاء وجعله مؤثراً يصعد القيمة الإيجابية لدى الجمهور، فينمي مدركاته الحسية والذهنية ويحفز ملكاته العقلية، ومجساته العاطفية، التي تعد من مؤشرات النجاح في العروض الفنية ذات الخطابات الجمالية المختلفة، كالعروض المسرحية، أو الاوبرالية، والكيروكرافية وسوى ذلك.
إنَّ جمالية السينوغرافيا في حسن استخدامها، وليس تكديسها بلا مسوغ فني وجمالي، تماماً مثلما هي المدن العشوائية الخارجة عن الانساق الجمالية، فمن فضائل السينوغرافيا أن تتحول بعض المدن الصحراوية إلى مدن تبدو وكأنها افتراضية، عماراتها تناطح السحاب، وأبراجها تسلب الألباب، مثلما هي دبي، وذلك هو التغريب الذي يحيل القبح إلى جمال، بفضل براعة التخطيط السينوغرافي الحضري، مما يؤكد أن العقول التنويرية التي تخطط لازدهار المدن تتوافق رؤيوياً مع بعض المخرجين القلقين الذين يؤرقهم الجمال، وكيفية صناعته في العروض المسرحية التي تنمي مدركات الجمهور وترتقي برهافة حسة، ورفعة ذوقه، عبر الوسائط المنتجة للفن والجمال وفي مقدمتها السينوغرافيا التي تحيل النص الأدبي الى نص (فني جمالي)، ومن دون هذا الاشتغال البارع على نصوص العرض، لايمكن للعرض أن يجتذب ذائقة متفرج واحد، فينتهي العرض مثلما بدأ بلا وهج أو صدمة واكتشاف.
وطالما أخفقت العديد من العروض المسرحية في إيصال رسائلها الجمالية لشحوب خيال مخرجيها، وافتقارها لمصمم سينوغرافي يحررها من سلطة الحوار، وهيمنة المضامين، وسطوة الكتل الديكورية، وسكونيتها. ورتابة الايقاعات والاداءات الملفقة، إذ إن السينوغرافيا تعني الشكل الذي يرتقي بمضمون العرض على وفق مقاربات فنية صادمة لأفق توقع الجمهور أو هكذا يفترض، لأن العرض شكل في المقام الأول مهما اختلفت معالجاته.
في بحث نشرته في مجلة الخشبة العدد الثاني، السنة الأولى، صيف 2013، ص43 قلت: إن الشكل بوصفه بنية أساسية في المدرك البصري من الأهمية بحيث لا تكون للمضمون قيمة بدونه، فهو الذي يدل عليه، أي عندما يتمظهر المضمون في الشكل المعبر من خلال مقاربة تطبيقية على وفق رؤية متبصرة تغادر المألوف وتستشرف الآفاق المستقبلية، والسينوغرافيا علاقات شكلية وتشكيلية تؤسس فضاءات المدن والعروض المسرحية.
وتتأسس علاقة الجمهور منذ اللحظات الأولى عند بدء العرض بالرسم التشكيلي للفضاء، وعناصره المشيدة لبنية الصورة في المشهد المسرحي، وفي سينوغرافيا العروض المسرحية تتصاهر نصوصها ضمن سينوغرافيا متجانسة ومتحركة بفعل مهارة المصمم السينوغرافي، ومن جراء ذلك تتأسس المسافة الجمالية التي هي رهان تألق العروض المسرحية.
إنَّ الداخل لمشاهدة العرض المسرحي كالداخل إلى مدينة يفترض أن تكون ساحرة ومبهرة، بحيث يأمل أن يزورها باستمرار، لما تركت في نفسه من انطباعات ممتعة وسارة، ولا يمكن أن نتخيّل عرضاً في زمننا المعاصر يفتقر إلى السينوغرافيا، فيكون أشبه بامرأة جميلة لكنها حليقة الشعر، بمعنى أن جمالية العرض لا تكتمل من دون سينوغرافيا تؤطر نص خطاب العرض المسرحي، بحيث تسر العيون، وتبهج النفوس، والأهم أن تبقى العروض المسرحية كما المدن الساحرة يحج إليها الجمهور من كل فج عميق بمختلف الثقافات.