ما الذي أضافته فعاليَّاتنا الثقافيَّة للوعي العراقي؟

ثقافة 2022/05/23
...

 البصرة: صفاء ذياب
مع كل فكرة صغيرة أو مشروع بسيط، إن كان ثقافياً أو تجارياً أو فنياً، يطرح سؤال الجدوى، هذا السؤال الذي يبنى من خلاله ما يمكن تقديمه في هذا المشروع، والمؤمل من النتائج التي من المفترض أن يخرج بها. وإذا نظرنا بشكل آخر للمؤتمرات والمهرجانات والفعاليات الثقافية، علينا أن نبحث عن الجدوى التي تقام من أجلها هذه الفعاليات، إن كانت جدوى مادية أو معنوية، مادية بمعنى تأثيرها في ما يمكن أن يغيّر من مسار الثقافة ورؤيتها، ومعنوية، وهي تقديم ثقافة مغايرة، ومن ثمَّ طرح الرؤى الجديدة في مسار الوعي العراقي.
 
غير أنَّ ما يحدث على العكس تماماً، ففعالياتنا الثقافية: مؤتمرات، مهرجانات، ندوات، وغيرها، مجرّد إعادة تكرار لا طائل منه سوى صرف مئات الملايين التي من الممكن أن تصرف في تغيير البنى التحتية لثقافتنا العراقية. فهناك من يرى أن بناء مؤسسات تدعم الحياة الثقافية أفضل من إقامة مهرجان يصرف عليه أكثر من 400 مليون دينار عراقي، وهكذا بالنسبة للفعاليات الأخرى.
وهنا نطرح تساؤلنا: لماذا وما الهدف من إقامة المؤتمرات والمهرجانات الثقافية إذا لم يكن لها تأثير على الثقافة العراقية؟
 
بناء الطفولة
يرى الدكتور محمد عطوان أنَّه ليس من مهام المؤتمرات والمهرجانات الثقافية تغيير الواقع الثقافي المحلّي؛ فالأعمال الأدبية والفنية المعاصرة التي يقدّمها مؤتمر أو مهرجان ثقافي لا تفعلُ شيئاً سوى أنَّها تُمثِّل تجارب حياتية (فردية وجماعية) عبر تقنيات كتابية أدبية.. فالشعر والرواية منتجات جمالية ورمزية تمثيلية في الأخير... والواقع أنَّه لا يُنتظَر من المهرجانات والمؤتمرات شيئاً يتوجّه لخدمة السياسات العامة للدولة، بما في ذلك التعديل الثقافي على المجتمع، لأنَّ السياسات الثقافية التي تتبنّاها الدولة مع مساندة مدنية فاعلة شيءٌ والمهرجانات والمؤتمرات التي تقدم الشعر 
والرواية والمسرحية والفيلم السينمائي شيءٌ آخر.. 
مضيفاً: قد تتضمن المهرجانات الثقافية محتوى ثقافياً رصيناً وجيداً، لكن غاية المحتوى ليست تغييرية بالضرورة! لأنَّ أغراض الشعر والأدب والفن عموماً لم تعد أغراضاً للتعبئة السياسية، ولا تخدم تصوّرات أيديولوجية مُعينة، هذا يعني أن الجهة المعنية بالتغيير الثقافي ليست المهرجانات بالضرورة. 
إنَّ المؤسسات الثقافية الرسمية وغير الرسمية من المنظمات المدنية غير الحكومية هي من يقع على عاتقها تصميم البرامج الثقافية والسياسات التنموية العامة للنهوض بترقية المجتمع على الصعد كافة: ويتمُّ ذلك من خلال التعليم الابتدائي والمتوسط ابتداءً أو من خلال تفعيل الأنشطة الرياضية والفنية والثقافية والتقنية المدنية التي من بينها الأدب والترجمة والسينما والمسرح والكتابة والمسابقات الأدبية... أما أن ننتظر من شاعر في مهرجان ما تغيير الواقع أو أن نتطلع من فيلم إلى إحداث ثورة، فهذا من قبيل الأهداف العابرة للقصد.
 
تسليع الثقافة
ويرى الروائي شاكر الأنباري أنّه إذا اعتبرنا أنَّ مصطلح الثقافة العراقية مصطلح عريض يمكن أن يشمل الأدب والفن التشكيلي والسينما والمسرح، وما إلى ذلك من تخصصات إبداعية، فوجود فعاليات لها علاقة بتلك الحقول يمكن أن تصبح إيجابية ومحفّزة في خضم توجّه الوضع السياسي والاجتماعي نحو الاستقطاب، والمحافظة، والنبرة الدينية التي تحاول بعض القوى المهيمنة ترويجها بكلِّ السبل داخل بنية المجتمع برغم تنوّعه في الميول والاعتقادات. فكلّ مهرجان جاد، أو فعالية ثقافية رصينة، ستسهم في ترسيخ المجتمع المدني والحراك الثقافي المتواشج مع الهم العام، لا سيّما إذا لم تستغل تلك الفعاليات لأغراض لا علاقة لها بالثقافة. 
ليس هناك جوانب سلبية من الفعاليات الثقافية والمهرجانات بحدِّ ذاتها، لكنَّ تسخيرها خارج إطار الثقافة لتنميط الوعي الجمعي، وتمهيده لفرض هيمنة معينة، هو ما ينبغي الانتباه إليه وتوجيه النقد له. 
وهنا يأتي طموح المثقف الجاد إلى تأصيل تلك المهرجانات والفعاليات، وتعميق دورها في بلورة هوية ثقافية وطنية كي تكون ملمحاً بارزاً للهوية العراقية ككل. أي القتال من أجل الابتعاد عن إبراز السطحي، والهامشي، والشعاراتي، على حساب العميق والأصيل والمنتج. 
ويقع هذا الأمر بالتأكيد على أصوات المثقفين الجادة، المسؤولة، الفاعلة، التي تنتبه إلى خطورة ظاهرة تسليع الثقافة وتحويلها 
إلى احتفاليات نخبوية فارغة وغير إبداعية.
 
منصات بديلة
ويبيّن الشاعر إبراهيم البهرزي أنَّ المهرجانات الشعرية هي واحدة من المواريث القبلية التي تحاول المؤسسات الثقافية الرسمية وشبه الرسمية الإبقاء عليها لتحقيق غايات إعلامية او إعلانية صرفة. ما عاد الشعر بصيغته التي انتهى اليها يحتمل هذا الضجيج الذي يرافق المهرجانات، إنّه ضجيج الشعراء المحض، لا متلقٍ غير الشعراء، يقرأ بعضهم لبعض وسط أجواء من النرجسية والإطراءات المداهنة المتبادَلة. 
الشعر في العالم كلّه يعاني أزمة احتضار والمهرجانات الشعرية واحدة من مسبّبات هذه الأزمة، إنّها من أسوأ المظاهر البيروقراطية لادّعاء الثقافة، هناك صدود شعبي عام عن التواصل مع الشعر، وأحد أسباب هذا الصدود من بين أسباب كثيرة، هم الشعراء أنفسهم، شخوصاً ونصوصاً وهو أمر يحتاج لمراجعات كبرى تتعلق بطبيعة الشعر نفسه وطبيعة عصر الاتصال الذي نعيشه، وإن كان لا بدَّ للشعر من بديل عن المهرجانات فليكن الشعراء مثل الموسيقيين الذين يقفون على قارعة الطرقات ويعزفون مقابل قطع بسيطة من النقود، وإذا وجدوا هذا الأمر مهيناً فليعدوا لهم منصة في شارع المتنبي قرب نهر دجلة تتيح لمن يعاني منهم رغبة في قراءة الشعر على منبر ما، أن يقرأ ما يشاء وللجمهور الحق في الوقوف عنده أو الانصراف عنه، شارع المتنبي منصة مجانية سيكون خير بديل عن هذه المهرجانات المكلّفة المتكلفة.
 
أمراض مزمنة
وبحسب الناقد علي سعدون، يشاع في أدبياتنا نظرة دونيَّة غريبة إلى مؤتمرات ومهرجانات تقام في العراق بدعوى تنشيط الممارسة الثقافية، وهي كذلك بالفعل في بعضٍ منها، والأغرب من ذلك كلّه أنَّ أولئك الذين تنغرز أقلامهم في جسد تلك الممارسة يسهمون فيها ويتفاعلون معها بطريقة أو بأخرى.. هذا الأمر يشير إلى وجود انفصام ثقافي الذهنية السائدة.
مضيفاً: لا أريد لرؤيتي هنا أن تندرج في مديحٍ للمؤسسة الثقافية التي تعاني من أمراض مزمنة لا حصر لها، لكنني أحاول أن أفكّر بصوتٍ عالٍ عن الممارسة الثقافية التي ترتقي إلى مستوى نطمح إليه جميعاً، وهو البديل الحقيقي لصناعة ثقافة وطنية مبدعة وأصيلة تكون بمثابة مشاريع ثقافية بمقدورها أن تعزّز ثقتنا بالإبداع العراقي.
علينا أن نبحث عن البدائل المهمة للممارسة الثقافية الحالية بدلَ مجرّد انتقادها. والأمر ذاته بمثابة دعوة لكلِّ المؤسسات للاهتمام برموز ثقافتنا وجعلها في أولويات اهتمامهم- دراسةً وبحثاً واحتفاءً– من خلال إقامة مؤتمرات تخصصية لتسليط الضوء على تجاربهم الغنية والهائلة. لقد فقدت الثقافة العراقية قامات مهمّة وكبيرة في السنوات 
الماضية.
 
خطط واضحة
الشاعر حسام البطاط يوضّح أنَّ الثقافة بمفهومها الشامل لا تتوقّف عند إقامة مهرجانات أو ملتقيات أدبية، بل تتجاوزه إلى ما هو أبعد من ذلك من حيث بناء مجتمع واعٍ يستطيع من خلال المعرفة أن يتجاوز الأطر المتخلفة وأن يرتقي بحياة الفرد في شتّى نواحي الحياة. 
كلّما ارتفع مستوى الثقافة في المجتمع تضاءلت الحاجة إلى وجود رجل أمن في الشارع، وهذا ما لا يمكن أن نطلبه من قصيدة أو رواية الهدف من وجودها جماليٌّ روحيّ بالدرجة الأساس، بل لا بدَّ من أن تأخذ المؤسسات الثقافية دورها في جعل الثقافة منهاج حياة عبر خلق جسور للتواصل مع المؤسسات التربوية والتعليمية كافّة لوضع خطط واضحة الملامح لتأسيس أجيال مثقفة منفتحة على الآخر من دون قطيعة مع الجذور الثريَّة.
 
(اللّمة) الثقافيَّة
ويكشف الشاعر أمير ناصر عدم معرفته بالكيفية التي كان الأدباء والفنانون يلتقون من خلالها، ولم يخطر بباله أن يسأل عن هذا، لكنه يخمّن أن بغداد كانت المحطة الأولى لذلك ومن ثم البصرة... و”لا أعرف هل التقى غائب طعمة فرمان بكاتب بصري، هل التقى محمود جنداري بكاتب حلّي أو ناصري (نسبة للناصرية) مرَّةً في بداية التسعينات وبينما كنا نحصي أنا وأحد الأصدقاء، أدباء بغداد، جاء طيب الذكر عبدالستار ناصر، وأخبرته بما يجري وكان على رأس القائمة وبصراحة دهشت لقوله: (.... أمير أنا بغدادي وربَّما جدي الأربعين ولد في بغداد، لكنَّ ثقافتي بصريَّة، من البصرة تعلّمت، كنت أهبط بالقطار نحو البصرة مساء كلّ خميس حتّى التقي القامات الأدبية الكبيرة وأتعلم منهم... أمير البصرة بئر عميقة...)”. 
فقد معظم الأدباء (اللّمة) الثقافية، وظنوا أنَّهم قادرون على استرجاعها بالمؤتمرات والمهرجانات (التي وحسب رأيه لا تشكّل أيّ معطى ثقافي، يتبادلون كتبهم وهمومهم و....).
البديل برأي ناصر هو (مسؤولية الاتحادات الفرعية) باستضافة بعض الأسماء المهمة وبشكل دوري، أو مهرجانات نوعية جدّاً تخصّص للأبحاث والدراسات بدل طوابير الشعراء... “أملي كبير في ايجاد صيغة حضارية لذلك”.