تناصّ الصور والأقدار

ثقافة 2022/05/24
...

 ابتهال بليبل 
 
من الأمكنة الأليفة التي لا تزال ذكرياتها السحريَّة تغزلُ داخل الروح نسيجاً من الدهشة والفرح والحنين والارتباك هي استوديوهات التصوير الفوتوغرافي، أتذكّر أن الذهاب إليها يبدأ بطقوس تشبه التحضر لعيد، أجمل الملابس، أجمل التسريحات، لتقف هناك تحت أضواء ساطعة، منها ضوء تظلله شمسية من نوع خاص تعيد انعكاسه على الوجه، ثم يأتي المصوّر وهو عادة أنيق ومبتسم، يعدّل من وقفتك وحركة وجهك، قبلها ممكن أن يدلك على مرآة وفرشاة لتصفيف الشعر ومشط من البلاستك.. في الفاترينا ثمّة صور لوجوه كثيرة، وجوه تبتسم في بدلات أنيقة ووجوه تنظر نحو أفق بعيد، أطفال وشباب ونساء وعجائز، لكن لا أتذكر أنني لمحت صورة مشطوبة بالخط الأسود أبداً.
بقيت صورتي وأنا طفلة معروضة في واجهة استوديو يديره فنان معروف لأعوم طويلة.. أنا الطفلة الجميلة التي لم تتجاوز الستة أشهر من عمرها بثوب نسيت ملامحه وبنظرة ما ووجه أعجب المصور، فقرّر أن يجعله دعاية لمحله المرصوف بالعشرات من الصور الخلّابة بالقرب من استوديوهات عدة في شارع الرشيد بين منطقتي حافظ القاضي وسيد سلطان علي.. بقيت فرجة لمئات أو ربما آلاف العيون الفضولية، التي كانت تمسح وجهي وهي في طريقها إلى عملها أو جولات التسوق. 
روى لي والدي هذه الواقعة في رحلة طويلة كنا ننحدر معا فيها بين البيوتات، نتمتع برؤية المحال و(البقاليات)، فكان أن رحلت مشاعري نحو الماضي وكأنّي أعبر الزمن إلى تلك اللحظات، التي كنت فيها (أيقونة) في شارع ضاج بالناس والأصوات والروائح، تابعت رحلتي كصورة من لحظة تعليب وجهي المدوّر على سليلوز الفيلم السالب، ومن ثم تحميض الفيلم بتلك السوائل والخلطات ذات الروائح الحريفة، وبعدها مرور الشريط تحت آلة تقطيع الصور بأحجام متساوية وتقسيم الصور تحت أرقام على طريقة البسط والمقام. كم كان رقم صورتي وماذا حلّ بالفيلم السالب المطوي على بكرة والمعلق في غرفة معتمة... دائما أتخيل نهاية ما.. نهاية تختلف في كلّ مرة!
أحياناً يدفعني شريط الذكريات عندما تتوالى الصور في مخيلتي، للبحث عن تفاصيل استوديوهات التصوير الفوتوغرافي في سبعينيات القرن الماضي تلك التي غيّر الزمن مشاهدها، وصارت كومة من صور قديمة في حقائب أو أكياس منسية مع كراكيب أخرى، أو ربما هي الآن مجهولة وضائعة مع ضياع أصحابها.. فمن أستوديوهات (آرشاك وألدورادو وجعفر الحسيني والصباح وعبد الرحمن عارف وعبوش وشريكه ومراد الداغستاني صاحب ستوديو مراد ومحمد نورسي وجان صاحب ستوديو بابل للتصوير ونوفكس وأمري سليم صاحب ستوديو قرطبة وغيرهم) كنا نتشبث بمن هم أكبر سناً منا كي نمرّ من أمام فاتريناتها، إلى أن كبرنا وجاء اليوم الذي فرغت فيه من الصور وتحولت إلى مهن أخرى لا تمتّ للجمال بصلة.
مرة.. أخذتني جدتي في مشوار لا أتذكّر تفاصيله جيداً، ربما لمشفى أو هكذا يبدو لي، لكنها وبعد الانتهاء منه أمسكت يدي، فمشيت خلفها طائعة لاكتشاف مفاجأة لم أكن قد رأيتها غير مرة واحدة ومن بعيد.. أرتعش داخلي وأنا أرنو إلى صندوق ضخم، اختارت جدتي أن تجلس قبالته وخلفها قطعة قماش باللون الأسود. كانت ظهيرة قائظة وضجيج السيارات يربك المكان، كما يربك روحي مثلما كانت نظرات المارّة الفضولية تتأمل وجهي الطفولي فتزيد من ارتباكي وخجلي، أومأ المصور الشمسي لجدتي بالكفّ عن الحركة، فصار العالم صامتاً داخلي وأنا أدقّق في وجهها أترقب حالتها بقلق إلى أن باغتني صوت المصور الذي كان غريباً بالنسبة لي آنذاك معلناً انتهاء عملية التصوير.
كنتُ كلما أعثر على صورة لأحد أفراد العائلة من خال أو عم أو جد كان قد التقطها من خلال تقنية التصوير الشمسي أشعر بالرعب، إذ يخيفني ذلك الشبه بين ملامح الصور بالأسود والأبيض، وبين الأشباح.. المصوّر بمعناه القديم تلاشى الآن.. إذ صار التصوير مهنة الجميع فقد وفرّت التقنيات الحديثة كلّ شيء.. الفلاتر والقياسات والألوان والدقّة.. ولكنها فشلت في توفير رهبة الاكتشاف والانتظار الطويل، لنرى كيف تخرج صورنا من تحت عين الرائي الذي يحترف رسم أعمارنا وذكرياتنا على الورق.