مظفر النواب.. الصوت الشجيّ بالأغنية العراقيَّة

الصفحة الاخيرة 2022/05/25
...

 سامر المشعل 
نفذت قصائد الشاعر الكبير مظفر النواب إلى فضاء الأغنية لتشكل جزءاً من خارطة النغم العراقي والعربي، وأسهمت في تنمية الذائقة الجمالية لدى المستمع، على الرغم من أنه لم يكتب نصوصاً غنائية، إنما قصيدة شعبية، لم يخطط لها أن تلحن، ولم يطلب من ملحن أن يحول قصائده إلى أغانٍ، لكن قصائده كانت تغري الملحنين لاقتحام عوالمه المدهشة على مستوى الصورة الشعرية العميقة، والمفردة الشعبية الغارقة بالمحلية العراقية "الحسجة"، فضلاً عن كونه غير مرغوب به من قبل السلطة فهو المحرض الأكبر على الثورة ضد الحكام والطغاة، وعادة ما تحمل قصائده ترميزاً سياسياً، إلا أن الملحنين من كلا الطرفين "شيوعيين وبعثيين" كانت تغويهم قصائده للمغامرة بتلحينها.
 
وبالفعل تحولت قصائده من منشورات سرية تقرأ بالخفاء، إلى أغانٍ ومعلقات باللحنية العراقية تبث بالإذاعات وتسمع بالكاسيتات، وتحفظ وتغنى بالسهرات وجلسات السمر، بل أصحبت جمله الغنائية تطلق على شكل أمثال شعبية، الأمر الذي زاد من شعبية مظفر وشهرته.
 
أغاني النواب
تحولت قصائد النواب من الورق والكتاب المطبوع إلى أغانٍ تسمعها الناس، منذ ستينيات القرن الماضي، ومن أوائل الملحنين الذين اشتغلوا على القصيدة النوابية، الملحن فاروق هلال والملحن محمد جواد أموري، بفترات متقاربة نهاية الستينيات، لحن الأول قصيدة "جنح غنيدة.. رديلي الفرح رديت" وغناها فاروق هلال بصوته، تحديدا في سنة 1968، والقصيدة الأخرى والأكثر انتشارا هي قصيدة "الريل وحمد.. مرينا بيكم حمد" للملحن محمد جواد أموري، والتي غناها المطرب ياس خضر.
ثم قدم الملحن كمال السيد قصيدة "ريحان.. جم نده نكط عالضلع" بصوت المطرب فاضل عواد. ومن الأغاني الأكثر بهجة وتعد من الفولكلور الشعبي، الذي يتردد على ألسنة الصغار والكبار أغنية "ابيته ونلعب بيه شله غرض بينا الناس" والتي غناها المطرب صباح غازي، ثم أعاد تقديمها المطرب رعد بركات مع تغيير في كلمات الأغنية.
لكن قصائد مظفر النواب وعلى يد الملحن طالب القره غولي، أخذت صدى أوسع، وتصدرت المشهد الغنائي العراقي، بل أحدثت نقلة كبيرة في اللحنية العراقية من خلال "ليل البنفسج" و "روحي" و "حن وانه حن"، والتي صيغت لصوت الفنان ياس خضر، وأصبحت هذه الأغاني جزءاً من هويته الغنائية.
كذلك قدم الفنان الراحل فؤاد سالم عدداً من قصائد مظفر النواب ومنها "أيام المزبن" و "عودتني انتظر"، والمطرب سعدون جابر أيضا كانت له حصة من قصائد النواب، فقدم له أغنية "مو حزن" من ألحان كاظم فندي، وأغنية "يجي يوم".
ومن الفنانين الذين تعاملوا بصدق وانفعال سياسي مع قصائد مظفر النواب الفنان سامي كمال، الذي قدم أغنية "مو حزن" وأغنية "صويحب" والتي راحت حناجر الجماهير تهتف بها أثناء مراسيم تشييعه في بغداد. 
وكذلك قدم الفنان الهام المدفعي قصيدة "جذاب.. ردتك ولو جذاب" وقد أخذت هذه الأغنية شهرة واسعة.
أما الفنان الراحل رياض أحمد، فهو من أكثر المطربين الذين اغترفوا من نبع مظفر الشعري، وكان أقربهم ملامسة لروحية "ابو عادل"، قدم رياض العديد من قصائد النواب بطور المحمداوي، ومنها قصيدة "ترافة وليل"، وقصيدة "رديلي الفرح " وغيرها من القصائد التي غناها على شكل مواويل.
 
سردية شعرية لحنية
تحدث الفنان الكبير فاروق هلال لـ "الصباح" عن تجربته مع الشاعر مظفر النواب قائلا: "كنت محظوظا بالتعامل مع الشاعر الكبير مظفر النواب من خلال تلحيني وغنائي لقصيدة "جنح غنيدة" وقد اجتمعت معه في جلسة حميمية ضمت بعض الفنانين والصحفيين، واستمع إلى تلحيني للقصيدة وابدى سروره واعجابه بتلحيني وأدائي، وأعطاني بعض الملاحظات بطريقة نطق بعض المفردات باللهجة المحلية، فقلت له أنا ابن بغداد، ولا بأس أن نمازج بين الشعبي والحضري".
ويضيف هلال "لم تكن قصيدة "جنح غنيدة"، عملاً تلحينياً سهلاً، إنما سردية شعرية لحنية، وكان النواب مسروراً ومعجباً بهذا اللحن".
يفتخر هلال بمجالسته للشاعر مظفر النواب وتلحينه لواحدة من أهم قصائده قائلا " أفتخر بمجالستي وتلحيني لشاعر خالد في ضمير الذاكرة الشعبية، فهؤلاء العظام هم من يصنعون الصورة المشرقة والحضارية للعراق، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، فهو الشاعر المغرد باسم العراق أينما يكون".
ثورة باللحنية العراقية
يرى الملحن الكبير محسن فرحان من خلال حديثه لـ "الصباح" : "أن الشاعر الكبير مظفر النواب، أحدث ثورة في الشعر العراقي والعربي، فهو مدرسة شعرية لها ملامحها الخاصة وأبعادها، انعكست آثارها على الأغنية العراقية، وأحدثت انقلابات لحنية وموسيقية من خلال تعدد الأوزان والمقامات في القصيدة الواحدة، وخير من اشتغل على القصيدة النوابية، هو الملحن الكبير طالب القره غولي".
ويشير فرحان إلى "أن النواب ألبس القصائد السياسية ثوب الأغنية العاطفية، بثورة إبداعية، أثرت الساحة الشعرية، وتأثر بها مجايلوه من الشعراء أو الذين جاؤوا من بعده".
ويؤكد الموسيقي والباحث احمد المختار أهمية قصائد مظفر النواب التي حرضت الملحنين على إحداث تجديد بالصياغات اللحنية تتسق والحداثة الشعرية التي أتى بها قائلا "إن النواب بإصراره على طريقته المتجددة الثرية المتنوعة بكتابة القصيدة جذب الملحن إلى المستوى الإبداعي لقصيدته ليضع لحناً يجاريها وبهذا دفع أو حتى أجبر النواب ملحني قصائده على تغيير شكل وصياغة الأغنية العراقية ومضمونها التعبيري وحياكتها اللحنية لتخرج من ثوب بساطة أغنية ما قبل الستينيات إلى مجال ذي عمق تعبيري أوسع ولتتخلص من سطحيتها في بعض الأحيان. هذا التجديد على يد النواب وملحني قصائده لا ينفصل عن الحراك الثقافي ووعي مجتمع مدرك لأهمية التجديد في منتصف الستينيات والسبعينيات، لأن وعي المتلقي المثقف والعام كان عاملاً مهماً لنجاح قصائد النواب جماهيرياً ونجاح ملحني قصائده".
 
لقاء القره غولي بالنواب
التجربة الأكثر ثراء باللحنية العراقية هي تعاون الملحن المبدع طالب القره غولي مع قصائد مظفر، وفي أحد لقاءاتي بالقره غولي سألته: إذا كان هناك اتفاق بينك وبين الشاعر مظفر النواب على تلحين قصائده؟ فأجابني: "كل الألحان التي قدمتها للنواب، لم تكن بالاتفاق معه، بل لم تكن بيني وبينه، أية معرفة سابقة". 
وسرد لي القره غولي حكاية تعارفه مع النواب قائلاً: "كان يجلس النواب بالليل في مطعم ‏اسمه "قصبجي" في شارع التجارة ‏بدمشق، وهو عبارة عن مكان ‏صغير يرتاده عدد محدد ‏من الزبائن، الذين يتكررون على ‏المكان، ولا يأتيهم شخص ‏غريب، فقصدت المكان أبحث على ‏النواب، فشاهد صاحب المكان ‏شخصاً غريباً، فقال لي تفضل أنت ‏لأول مرة تأتي إلى هنا، قلت أسأل ‏عن الأستاذ مظفر النواب، فقال عندك ‏موعد معه، هل تعرفه؟ قلت لا ‏والله لا أعرفه.. جئت لغرض ‏التعرف عليه.. قال النواب لا يأتي ‏إلى هنا دائماً، أعطني ‏اسمك وأنا أخبره، والأمر متروك ‏له.. وقال من حضرتك؟ قلت له أنا ‏طالب القره غولي.. فقال أنت طالب ‏القره غولي، معقولة!.. قلت له ‏ما القصة؟.. فقال " يازلمة نحن كل ليلة نحكي بيك وبألحانك"، ‏وعلى الفور اتصل بمظفر وقال له ‏تدري من هنا؟ إنه طالب القره ‏غولي، فتحدث معي النواب على الطرف الآخر من الهاتف ورحب بي، ‏وكان ساكناً في منطقة بعيدة ‏اسمها "دمر"، واعتذر عن المجيء ‏قائلاً : الليلة لا استطيع المجيء، ‏لدي عمل، وغداً سوف أحضر ‏ونلتقي في المكان نفسه، وفعلاً ‏التقينا في اليوم التالي. 
ويواصل القره غولي سرد حكايته المشوقة بأول تعارفه بالشاعر مظفر النواب ويقول "كان ‏يهمني أن أرى وقع ألحاني عليه.. ‏فقال النواب أنا لا أسمح لأحد أن ‏يغير شيئاً في كلامي أو يضيف ‏شيئاً، وأنت لم تغير شيئاً وإنما أضفت شيئاً وأنا مرتاح لهذا ‏التغيير.. فقلت له أين الإضافة؟ ‏فأنا بصراحة نسيت.. فقال في ‏قصيدة "روحي" في مقطع (‏عتبها هواي ما يخلص عتب ‏روحي) أنت أضفت هذه الجملة ‏وهي متماشية مع الكلام، وهذه ‏الإشادة أفرحتني ‏واعطتني زخماً من
 الثقة". ‏
 
"ليل البنفسج" لحنت بالمنام
ويظل الحديث عن عملاقين بالشعر والتلحين ذا شجون، وفي أحد المساءات في ناحية النصر بمحافظة الناصرية، "ناحية النصر" العش الأول الذي خرج منه القره غولي، إلى سماء النجومية والإبداع، زرته في بيته الذي عاد إليه في أيامه الأخيرة، مثل أي طائر يعود إلى عشه بحنين وشوق، فكشف لي "أبو شوقي" عن سر في غاية الغرابة، أنه لحن قصيدة "ليل البنفسج" أثناء منامه!. 
قال لي القره غولي إن أغنية "ليل البنفسج" للشاعر مظفر النواب، والتي تعد واحدة من روائع الغناء العراقي، لحنتها أثناء منامي، فهذا اللحن الرائع هو نتاج أحد أحلام القره غولي.
وسرد لي قصته مع قصيدة "ليل البنفسج" قائلا: "نص البنفسج أتاني به الفنان ‏سعدي الحديثي، وقال لي: قصيدة ‏البنفسج اشتغل عليها إذا تقدر". 
‏ويواصل القره غولي حديثه: هي ‏قصيدة معقدة تشعر أن ايقاعاتها ‏متنوعة وفيها ‏فكرة، بحيث كنت عندما اشتغل ‏لمظفر لحناً أنسى كل الدنيا، ‏المفارقة الغرائبية التي يسردها ‏طالب في هذا اللحن أنه وصل ‏بتلحينها إلى مقطع "شلون ‏اوصفك وانت كهرب وانه كمرت ‏عيني دمعة ليل ظلمه" يقول عند ‏هذا المقطع توقف اللحن، وبقيت ‏حائراً كيف أدخل هذا المقطع ‏بشغل جديد، فعصى عليّ وبقيت ‏لمدة شهر أفكر وقلق، كيف ‏ألحنه؟.. وفي ليلة من الليالي ‏وأنا أحلم بالكلام، وأثناء الحلم تراءى لي أني ‏دخلت بلحن مقطع شلون ‏اوصفك.. وحال ما استيقظت ركضت ‏إلى العود وعزفت اللحن وسجلته ‏فوراً، وهذا اللحن أجزم جزماً كاملاً ‏بأني لحنته بالحلم.
حكاية تدعونا إلى تأملها باعجاب ودهشة، لنعرف أن القره غولي عندما يروم تلحين نص فإنه يعيش مع مفردات الكلام ويصوغ لحناً مستنبطاً من المعنى الذي يجسده، فهو يتلبس اللحن ويبقى يرافقه في يقظته ومنامه، وطريقة تلحين القره غولي تختلف عن سائر الملحنين، فكل مقطع من النص الشعري يلحنه بطريقة قائمة بذاتها وعادة ما ينتقل من كوبليه إلى 
آخر.
 توقفت لحظة الإلهام عند القره غولي، في مقطع "شلون اوصفك" ليبقى شهراً كاملاً، يفكر ويحاول أن يكمل اللحن بحيث يحافظ على تماسكه وقوة بنائه إبداعياً، ليتسلل الهم الإبداعي إلى منامه ويتحرك العقل الباطن في إنتاج هذا اللحن المهم. 
 
متوّج بمحبة الناس
مظفر عبد المجيد النواب( 1934 - 2022) بعد رحلة كفاح ونضال عاد النواب نعشاً محمولاً على الأكتاف ومشيعاً بحزن المحبة ودموع الفراق، بإرث إبداعي ووطني وإنساني قل نظيره بهذا الزمان، بعد أن تعرض للملاحقة والسجن، وعاش المنافي والغربة وكان صوت العراق في كل ارتحالاته في لبنان واليمن وسوريا، ومحارباً شرساً 
ضد الطغاة محرضاً على الثورة ضد الظلم ومدافعاً عن الجياع والأوطان، وبالإضافة إلى شاعريته الفذة فهو رسام ومغنٍ وكاتب مسرحي ومناضل، متعدد المواهب امتاز بالقائه المميز في مسرحة القصيدة، وكانت أمسياته الشعرية تحظى بجماهيرية كبيرة، وتوقد الأمل وجذوة النضال في نفوس الأحرار والثوار.