الروائية رضوى الأسود: لا أملك من فنون اللعب سوى القلم

ثقافة 2022/05/25
...

 حاورها: حسن جوان
صدر لها عدد من الأعمال الروائية منها «حفل المئوية»، «تشابُك» و «زجزاج»، وفي روايتها الأكثر جدلا «بالأمس كنت ميتاً.. حكاية عن الأرمن والكرد»  تتناول الروائية المصرية رضوى الأسود مأساة الإبادة الجماعية للأرمن عام  1915 والظروف المحيطة بها، وتسمي صراحة كلا من الجناة والضحايا، كما أولت في كتابها البحثي «أديان وطوائف مجهولة» اهتماما تفصيليا بالتاريخ وظروف تشكل الأديان والطوائف  والعوامل التاريخية التي انبثقت منها، بالإضافة لرصدها لجوانب أخرى أنثروبولوجية ونفسية واجتماعية أحاطت بتكوين أو ظهور دين ما، أو حتى ساعدت على انتشاره 
أو اندثاره أو تماهيه.
 
تواصلنا معها فكان هذا الحوار الخاص بـ «الصباح»:
 
*أول مواجهة لك مع قارئ روايتك «بالأمس كنت ميتاً» يلبث في عتبة هذا العنوان الذي لا يترك مجالاً لتجاوزه دون تأمل، هو مفتاح أولي لغواية تتحول فيما بعد إلى مفتاح لإعادة القراءة، كيف استلهمت هذا العنوان وإلى أي مدى حقق انسجاما مع روح الرواية لديك؟ 
-استلهمت العنوان من بيت شعر لجلال الدين الرومي في «المثنوي» مشيرًا لتجربته مع شمس التبريزي، يقول فيه: «أمسيت ميتًا فأصبحت حيًا»، وأنا في هذه الرواية أتحدث عن الصحوة، تلك الاستفاقة الروحية التي تحدث للإنسان في لحظة ما بعد تجربة مؤلمة، تلك اليقظة التي يكتشف معها الإنسان حقيقة نفسه والكون. وهي صحوة حدثت لأكثر من بطل بدرجات مختلفة، لكنها كانت واضحة للغاية في تجربة مالك. 
 
 *لماذا اخترت ثنائية عرقية بهذه الحساسية لتعيدي رواية تاريخية مسكوت عنها، لماذا الكرد والأرمن كنموذجين لصراع قديم جديد في المنطقة؟ 
-الأرمن والكرد من الشعوب القديمة والعريقة والتي كانت تحتل دولهم مساحات شاسعة من الأراضي، فكردستان كانت تمتد في المنطقة الواقعة ما بين أفغانستان وإيران، تحديدًا من الخليج العربي (الخليج الفارسي كما كان يطلق عليه قديمًا) وحتى ولايتي ملاطية ومرعش (في تركيا الحالية)، يحدها من الشمال أذربيجان وأرمينيا، ومن الجنوب العراق وولاية آمد (ديار بكر)، وجزء من الكرد كرمنج، وجزء آخر إيزيديون، والإيزيدية تعتبر في الوقت ذاته ديانة وقومية (بما أنها غير تبشيرية)، كما أن للكرد ديانات ثرية موغلة في القدم، ولهم أدبهم المميز.
أيضًا الأرمن عرق أصيل، في القرن الثاني قبل الميلاد كانت أرمينيا الكبرى تمتد من نهر الفرات آخذة معها أجزاء من أذربيجان وإيران حتى حدود جورجيا الحالية، وهي أول دولة تتبنى المسيحية كديانة رسمية، وللأرمن مهنهم التي اشتهروا بها كالطباعة، وهم خلوقون متسامحون، محبون ومخلصون جدًا للعمل، وقد حلوا محل اليهود كمستشارين للباب العالي في الدولة العثمانية نظرًا لاجتهادهم وسمعتهم الطيبة.
جمعتهما معاً دون غيرهما لعدة أسباب؛ لي أصدقاء مثقفون من الكرد كنت قد قرأت لهم روايات ومقالات تؤكد عمق الأواصر التي كانت تربطهم بالأرمن، وكذلك قصص حب رومانسية ربطت بين رجال ونساء من الشعبين. جغرافيًا، اقتسم الأرمن والكرد منذ القدم تلك المنطقة الهندو-أوروبية المترامية الأطراف، فكان من يغزو كردستان، يغزو بالضرورة أرمينيا، والعكس صحيح، وتاريخيًا، تعرض الاثنان لغزوات الآشوريين والفرس والمقدونيين والروم والعرب وأخيرًا الترك الذين لاقوا منهم الأمرين لأن أراضيهم كانت مسرحًا لحروب طويلة دارت بين العثمانيين والصفويين من جهة وبين العثمانيين والروس من جهة أخرى، ودينيًا، كان الاثنان يدينون بالزرادشتية (المجوسية)، قبل أن يستقطب الإسلام معظم الكرد، وتستقطب المسيحية جميع الأرمن. الملابس كانت تقريبًا واحدة، حتى الأسماء فيها تشابهات كثيرة مثل: باجرانونيان .. باجرانيلي، مانديكانيان .. مانديكانيلي، أيضًا اسم آرام وهو لأحد أبطال الرواية يشترك فيه الأرمن والكرد.
 
*هل دفعتك مستويات العنف والاضطرابات وتكرار الإبادات في أيامنا إلى اتخاذ إبادة الأرمن رمزاً لاستيقاظ الوحش تحت مختلف الذرائع؟ 
-العنف والاضطرابات والحروب والإبادات نعيشها طوال الوقت منذ أن نولد وحتى نموت، لكن دافعي الحقيقي في كتابة هذه الرواية تحديدًا كان مجموعة من الصور وقعت عليها عيناي بالصدفة، وإذا ضَيَّقنا الحلقة أكثر، سنجدها صورة بعينها كانت لسيدات عاريات مصلوبات، تشبعت تمامًا بالصور وبما وراءها من بشاعات، وحين تشكلت الحكاية في رأسي، بدأت بالكتابة. وفي النهاية أعتبر أن ما قدمته هو مجرد نموذج وحيد ضمن آلاف النماذج على مر التاريخ البشري التي تشهد على دموية بني آدم ووحشيتهم، الفكرة كلها في المعاناة والظلم البشري الذي تعرضت له أعراق وأجناس وأثنيات مختلفة على مدار التاريخ، وقد انتقيت منها حالة لشعب أو جنس، لأنني لا أستطيع أن أتكلم عنهم جميعًا في عمل واحد. المثير في الأمر، أنني بعد أن انتهيت منها، اكتشفت أن أحداثها بشكل أو بآخر تدور ثانية بذرائع مختلفة، لكن تظل الطريقة واحدة، ويظل التاريخ يستنسخ نفسه بإخلاص عجيب، ولا يتعلم الإنسان من الماضي. 
 
*هل وظيفة الرواية الأدبية قرع الأجراس المحذرة من قدوم البرابرة او التذكير بأمس المأساة؟ 
-لا ليس بالضرورة أبدًا، فهناك من يرى بأن الفن للفن، وبأنه يكفي القارئ جني المتعة من وراء القراءة، وأن ذلك في حد ذاته يُعدُّ رسالة ونجاحاً ما. لكن قد يكون هناك بالمثل من يريد إيصال رأيه، وإبراز وجهة نظره، وإشهار فلسفته الخاصة، وهو حر بالطبع، كما أن القارئ حر فيما يراه صالحًا للقراءة.
 
*هل خشيت وأنت توظفين مقاطع من صفحات تاريخية أن تقعي في تقريرية تُفقد السرد الروائي أدبيته؟ 
-أعتقد أنني نجحت في تجنب هذا الفخ الذي أنكره أنا نفسي على بعض من يكتبون الروايات التاريخية، والذي يوقعهم في شراك التقريرية، ومن ثم إثارة الملل لدى القارئ وإيثاره لترك الرواية وعدم استكمال قراءتها، يتوجب على الكاتب معرفة الحدود الفاصلة بين كتابة الأدب وكتابة التاريخ، وقد قدمت رواية أدبية، لم تكن درس تاريخ أو فيلما وثائقيا، فقد كنت حريصة تمامًا على أن يُلِم القارئ بالمعلومات التاريخية من خلال السرد السيري للأبطال، ومن خلال حيواتهم، وكذلك من خلال احتفالاتهم، و ملابسهم وطعامهم، وما يعتنقونه من أفكار وديانات. كان التاريخ يتجلى في الرواية عبر الأحداث اليومية التي يمر بها الأبطال، وليس من خلال خطب وتقارير مكتوبة ومقاطع كاملة يسهل الحصول عليها من كتب أو مواقع ووضعها في الرواية بتقنية القص واللصق دون مجهود يذكر. في النهاية، أستطيع أن أقول أنني وظَّفت التاريخ في رواية رومانسية مكتوبة بحس صوفي.
 
*عندما يوظف الروائي وقائع تاريخ بعينه، لا سيما في تاريخنا الشرق أوسطي المختلف عليه، كيف يكون واثقاً أنه استند إلى أكثر المصادر دقة واعتدالاً؟ 
-التاريخ العالمي كله مليء بالأكاذيب، وليس في منطقتنا المنكوبة فقط؛ فكاتب التاريخ هو في النهاية إنسان لديه أفكاره وتوجهاته وانتماءاته ودوجمائيته، والموضوع ينطبق بالمثل على كاتب الرواية. لكن الكاتب المستنير، صاحب الأفق الواسع، والقراءات الغزيرة المتنوعة، تتكون لديه مع الوقت تلك الحساسية التي تمكِّنه من الفرز، ومن ثمَّ الابتعاد عن المصادر المشبوهة والتعامل مع المصادر النزيهة. أعتقد أن فصل الخطاب في هذا الأمر هو الموضوعية، فإن استطاع الكاتب أن ينسلخ عن ذاتيته، فسوف نضمن نتاجًا واقعيًّا، أو على الأقل أقرب ما يكون للحقيقة ولما جرى فعليًّا. وبالحديث عن هذه الرواية، فلا أعتقد أن الصور التي التقطها مصور ألماني من قلب الحدث يمكن أن تكذب. أعتقد أنه من الصعب بمكان التشكيك في أفلام مليئة بالمشاهد الحية الموثَّقَة عن المجازر وعمليات التهجير، أو التشكيك في كم الاعترافات التي أتت على ألسنة شخصيات سياسية تركية عاصرت الحدث وأسهمت فيه، وكذلك شخصيات تنتمي لجنسيات مختلفة وكلها تدين وتؤكد ما حدث. بالمناسبة، كانت هذه الرواية بالنسبة لي ما يمكن أن أطلق عليه تمارين إحماء في عمليات التقصي والبحث واستخدام المراجع التاريخية وخبرة الفرز التي استعنت بها في كتابي «أديان وطوائف مجهولة».
 
*في امتداد فصول الرواية وظهور الأحفاد والورثة لأولئك الجناة والضحايا معاً، تظهر معهم أنواع أخرى من التساؤلات والمشاعر وينوء بعضهم تحت تركة الماضي، هل ما طرحته من حلول لا تزال تعبر عن موقفك في معالجة تلك الشخصيات أم إنك تتمنين لو تتبدل بعض مصائرهم؟ 
-لا، لم أختلف أو تتغير قناعاتي، أو حتى فكرت في تبديل مصائر شخصياتي الروائية، فالتي كتبت «بالأمس كنت ميتًا» منذ 6 سنوات، ما زالت كما هي، تعتنق الحب قانونًا كونيًا، وتؤمن بأن التصوف في فكرته المجردة هو نسق أخلاقي شديد الإنسانية والتسامح، وأن الصوفية الإسلامية وجه ضروري يجب العمل على إبرازه وتنميته، كما آمنت وما زلت بأننا بشر، ولأننا بشر، فسوف تستمر الحروب وآلة القتل الجبارة والأوبئة المصنوعة والظلم الممنهج. لكنني ككاتبة لا أملك من فنون اللعب سوى القلم، وكإنسانة ما زالت تمتلك قدرًا من الأمل، فأنا أكتب ما أتمناه وآمله، وأعلم أنه لم ولن يحدث يومًا. فالظلم الإنساني ابتدأه قابيل ولن ينتهي سوى بموت آخر بشري على وجه الأرض، فأنا أتحايل على الحياة والموت والمرض بالكتابة، كتابة المستحيل بالممكن.