ماذا حدث في تشييع مظفر النَّوَّاب؟

ثقافة 2022/05/25
...

 إسماعيل نوري الربيعي
لا فعل اجتماعيا من دون هدف محدد، هذا بحساب أن كل سلوك إنساني يتم تحديده بالموجهات الداخلية والخارجية، التي تجعل من الإنسان متطلعا نحو ممارسة هذا الفعل أو التقهقر والنكوص والرفض له، المعالجة المعرفية هنا مستلة عن عالم الاجتماع ماكس فيبر مؤسس نظرية الفعل الاجتماعي. الذي سعى نحو تقعيد هذا المصطلح ووضع له أسسه العلمية الراكزة والأكيدة. انطلاقا من التطلع نحو التفسير الدقيق. بحساب أن علم الاجتماع يقوم على تمييز ملامح السلوك الإنساني، استناداً إلى دور الفاعل الاجتماعي الذي يعمد إلى جعل سلوك الآخرين بمثابة المعيار والمثل الذي يتم الانطلاق منه. 
 
ومن هذا فإنَّ وحدة التحليل التي وضعها ماكس فيبر في حسابه كانت قد تمركزت عند (الشخص الفاعل) الذي تتمثل فيه الموجهات الذاتية. باعتبار مسعاها للتفاعل داخل المنظومة البشرية. الأصل هنا يقوم على العلاقة القائمة بين (الفرد وفعله)، الفعل بوصفه السلوك المستند إلى إنتاج معنى، وليس السلوك القائم على ردات الفعل الطبيعية والفطرية. 
فعل ينطوي على غاية وهدف يصدر عن الفرد، في حين تبقى مفاهيم وعلاقات كبرى تحتل أهميتها وحضورها في النشاط البشري بوصفها بنيات ومؤسسات تتفاعل، مثل الدولة، الأسرة، الهيئات العاملة في الفضاء الاجتماعي. القصد هنا يتابع أحوال وأوصاف أفعال محددة واضحة يمكن تمييزها بشكل مباشر. تستند إلى المشاركة الصادرة عن أفراد في نشاط اجتماعي. 
واقعة تشييع الشاعر (مظفر النواب) والأحداث الدرامية التي رافقتها، تستدعي قراءة هادئة، بعيداً عن التشنجات والتوترات. بعيداً عن لغة الازدراء واللفظ والترك، والإساءة والانتقاص، والإهانة والذم، والشتم والتحقير، والسباب والشتيمة، والفُحش والقذف والقذع بحق هذا الطرف أو ذاك. ولنا أن نتوقف عند الأنماط المثالية التي نادى بها ماكس فيبر بوصفها درساً معرفياً، ربما يكون من خلالها فتح الكوّة العقلانية على هذا المجمل من التراكمات العالقة عند حدود الهجاء والنبذ والاتهام والاقصاء والتهميش. 
القراءة تحاول الاستعانة بأنماط عقلانية لعلها تسهم في وضع البعض من التمييزات والفواصل في الفضاء العراقي، الذي راح يعيش أحوال تداخل الخنادق في طريقة تمييز الأفعال والأنشطة اجتماعية. حيث الجميع يتهم الجميع، فيما تتصاعد أحوال الفقد والخذلان والإخفاق الذي بات يتسلل في المجمل من الفعاليات والأنشطة حتى جاءت موجات الغبار والتراب لتغطي على كل شيء. ولتفصح عن مفارقة عجيبة حول أحوال الفقد والقنوط والفشل واللا جدوى الذي راح يحيق بهذا العراق المبتلى بالخراب والنكث والبلايا. 
مشيعيون عراقيون احتشدوا عند بوابة اتحاد الأدباء العراقي في شهر مايو 2022، لتوديع رمز وطني وعلامة ثقافية بارزة وشاعر موهوب مات في ديار الغربة. معبرين عن (فعل عقلاني له هدف محدد) باعتبار التأكيد على دور المثقف في إنتاج الكلمة المعبرة والدالة عن واقع الوطن. فيهم الطالب الذي يحوز هدف الحصول على الشهادة من خلال التحصيل والدرس والجهد والمثابرة حيث ثنائية (الهدف والأسلوب). وكذلك الحال مع المعلم والمهندس والطبيب، والسياسي والمناضل، والمراهق والشاب والكهل. بل حتى العاطل عن العمل مرتكزه يقوم على هدف الحصول على وظيفة، من خلال أسلوب البحث الدائب والمتواصل وتقديم نفسه بالشكل الذي يليق بالوظيفة المأمولة. ولنتوسع ولنقلها مباشرة (حتى اللصوص بحاجة إلى العدالة في تقسيم الأسلاب) كما يقول سقراط.  
هدف الفعل يتجلى واضحاً دون التباس أو تمويه، تشييع جنازة. الوسائل المعتادة فيها تقوم على؛ التوقير والاحترام والخشوع لهذا الحدث الإنساني الجلل، حيث (الموت). لقد خرج المشيعون من بيوتهم، توجه الحشد للمشاركة في نشاط اجتماعي استثنائي، لا يتكرر. الكثير وجد في هذا الحدث فرصة للتعويض عن تشييع كبار العراق (الجواهري والبياتي ومصطفى جمال الدين والكثير غيرهم) الذين دفنوا خارج ديارهم.  
حضرت (عقلانية القيم) بغزارة لدى المشيعين، الذين آلوا على أنفسهم حضور هذه المناسبة بوصفها، حدثاً شديد الأهمية في توحيد الصف العراقي، الذي نال منه التقسيم والتوزيع والاصطفاف الطائفي. فكان (تشييع مظفر النواب) تمثيلاً لقيمة الوحدة الوطنية التي يحتاجها العراقيون، بوصفها فرصة للمِّ الصف وجمع اللحمة وتعزيز الأخوة ودعم الاجتماع، إعانة الائتلاف، وإمداد الاتفاق، وإغاثة التقارب وانجاد الانضمام، وتأييد التآلف وتدعيم الانضمام ومساندة الانتساب وإعانة التآلف ونجدة التواصل. باعتبار الاستحضار العميق لرمزية المتوفى، بوصفه قيمة إنسانية، ورمزا للثوري الرومانسي الحالم بوطن تسوده الحرية والعدالة والمواطنة والمساواة. الحشد الكبير وليس العظيم، جاء إلى المكان لعبر عن تمسكه بقيم تآكل معظمها، بعد أن تناهبتها المصالح والصراعات على المناصب وانطفاء الأمل بالغد. حيث اليأس والاحباط والانقطاع. فكانت لحظة (الفعل التقليدي) حيث أحوال اسقاط الفرض، الذي تفرضه أحوال العادات والتقاليد الاجتماعية، إنها تجليات العقل الجمعي الخالية من الهدف، بقدر ما يتغلب التطبع، حيث موجهات البروتوكول والمشاركة في المناسبات والمراسم الاجتماعية، التي تعبر عن الوجاهة والمشاركة الرمزية. 
جاءت الجنازة إلى مقر اتحاد الأدباء، محفوفة بالمهابة والتقدير والتوقير. حتى كان الخرق الذي توّلد عن ردة فعل عاطفية. فعل لا علاقة له بالفعل العقلاني، بقدر ما كان تعبيراً صارخاً عن الهياج والانفعال والغضب والاضطراب.  
الناس تنتظر موكب الجنازة، فيما راح المغرِّدون على صفحات التواصل الاجتماعي، يعبرون عن رؤاهم النقدية في نتاج مظفر النواب؟! فهذا ينتصر لشعره العامي، وذاك يحاول تقزيم نتاجه الإبداعي، فيما لم يتورع آخرون عن الممارسة الأحط بالتاريخ حيث (الشماتة بالميت).  
الموقف الدرامي الأكثر حضورا تمثّل في خرق (جلال الموت)، فهل من المعقول أن تتم تصفية الحسابات مع الدولة ومؤسساتها وأجهزتها بكل ما فيها من أخطاء ورزايا وبلايا، من خلال التجاوز على نعش النواب، الذي لم يتبق له سوى؛ (مرة أخرى على شباكنا تبكي، ولا شيء سوى الريح، وحبات من الثلج على القلب، وحزن مثل أسواق العراق).