الروحُ العراقيَّة

ثقافة 2022/05/25
...

ستار كاووش
تجتمعُ في لوحاتِ الفنان العراقي علي آل تاجر عناصرُ عديدةٌ تمنحها أهميَّةً خاصة، وتجعلها تتبوأ مكانةً عاليَّةً تستحقُها بجدارة في تاريخِ إبداعنا بشكلٍ عام. وحين نتأملُ أعمالَ هذا الفنان، نرى كيفَ امتلكَ شخصيتَه الفنيَّة المميزة والخاصة، بعد أن غرفَ بيديه وخيالِه أشياءً وتفاصيلَ تبدو موغلةً في الشعبيَّة والبساطة ليحولها إلى كنوزٍ من الجمال والحكمة، التي لا تخلو من روح الدعابة. وأرى حسب ذائقتي الفنيَّة ومتابعتي لأعماله منذ درسنا معاً في الأكاديمية.
 إن آل تاجر - مع فنانين قلائل في تاريخ إبداعنا التشكيلي- استطاع الإمساك بقوة الرسم وسحرهِ من خلال أعماله التي لا تُخطؤها العين. لكن ما هي العناصر التي تمتلكها لوحاتُه وجعلتني أنظر إليها بكل هذا الحماس؟ هل هي تقنيتُه أم موضوعاتُه الشعبيَّة؟ فرشاته التي تتجول بحرية على وجوه وملامح الشخصيات، أم السحريَّة التي تنعكس من هذه الوجوه؟ هل ما أثارَ انتباهي هي السخرية وخفة الظل التي تتمتع بها شخصياته؟ أم هذه الرموز التي تنتشر هنا وهناك وتعيدني إلى مدننا وزخارف الأبواب وروح الموروث المحلي وأشكال الشناشيل؟ هل هي تكويناته الغريبة، أم رائحة العراق التي تفوحُ من هذه التكوينات؟ أهي الغرفُ المليئة بزخارف السجاد ورائحة البخور؟ أم حدائقه التي تضوعُ منها رائحة زهور الرازقي وعطر أشجار النارنج وأوراق الأشجار، التي إنعكست على ثياب النساء النحيلات اللواتي تقطرُ وجوههن خجلاً وحياءً وجاذبيَّة عراقية؟ أشياءٌ وتفاصيلُ لا حصر لها يمكنني الاسترسال بتعدادها والمضي مع سحر تناغماتها، وقوة حضورها الآسر وأنا أتحدث عن هذا الرسّام الذي أضعه في مقدمة إبداعنا التشكيلي. لكني سأجمع كل ما قلته وأختصره بجملة (الروح العراقيَّة)، فهذا الرسامُ الذي يعرف سرَّ اللون وانسجام الخطوط وقوة المحليَّة، يمسك الروح العراقيَّة برهافة عاشق، ويضعها على قماشات الرسم، إنه يعتني بها كمن يضع باقةَ وردٍ في مزهريَّة جميلة ويسقيها كل يوم. هكذا يبحث علي آل تاجر بين تفاصيل البيئة العراقية ويمسك مفرداتها، ليصيغَ منها في النهاية، عوالمَه التي تبدو واقعيَّةً لأول وهلة، لكنها واقعيَّةٌ سحريَّة عراقيَّة، ممزوجة بقصصنا التي نعرفها وننتمي إليها. وبذلك صار كأنَّه قد قلبَ مهمة عالم الآثار وصار ينبش في الحاضر ويدعك ما يجده من تفاصيل نثرها الزمن هنا وهناك، ليقدمها لنا ممهورةً بحلولِه الجماليَّة. فهنا يُرينا زوجينِ من الجنوب، وفي مكان آخر تخرج لنا شخصياتٌ مرحةٌ من شارع بغدادي مليء بالحكايات التي لا تنتهي. هنا تستقر وسائدُ ملونةٌ بانتظار الضيوف، يقابلها شمعدانٌ فضيٌّ يُحاكي النساءَ من فرط عذوبته. مراكبُ تغفو على ضفة دجلة، بينما نخلتان تتكئان على حافتي الشرفة وتمنحانها عطراً عراقياً ورائحة البيوت التي تركناها وراءنا في غفلة من الزمن. أشكالٌ تعبيريَّة وجرأةٌ لونيَّةٌ ونساءٌ بثياب شعبية بانتظار فرحٍ قادمٍ أو عريسٍ جميلٍ من أبناء القرية. لا شيءَ يعكّر صفو هذه الشخصيات التي يرسمها علي آل تاجر ولا يمكنُ المساسُ بها، فهي من فرط رقتها والحساسيَّة التي تشع من عيونها، وحضورها الآسر ستبقى وتعيش رغم كل ما مَرَّ وسيمرُّ عليها. شخصياتٌ تذكرنا بأغاني حضيري أبو عزيز وداخل حسن، وتُعيدنا إلى الغرف التي تقبع في خلفيات البيوت، تلك الغرف التي استقرت في زواياها مناضدَ وخزاناتِ ملابسَ لزوجين ما زالا بملابسِ العرس الذي لا يريد أن ينتهي. أتنقل بين لوحاتِ آل تاجر، وأتأملُ الشخصياتِ التي يرسمها، والبيوتَ التي امتلأت جدرانُها بصور الأبطال المحليين وبنت المعيدي والكثيرِ من الرموز الشعبية. أُمرر نظري من جديدٍ بين نسائه النحيفات بملامحهن الخَجِلة ونظراتهن الودودة وفساتينهن المطرّزة بالورد، فأعرف كيف أمسكَ علي آل تاجر بالفطنة الشعبيَّة ومزجها مع حساسيته الساحرة في استخدام اللون. هكذا يمضي آل تاجر مع عوالمِه الجميلة، وما عليه سوى الإمساكِ بفرشاته حتى تتقاطرَ وتتهادى هذه الشخصياتُ والأشكالُ والخطوطُ على سطوح اللوحات. ولأنه ملونٌ بارعٌ، فاللونُ لديه هو مفتاحُ التأثيرِ والسطوة، وهو الذي يفتح نافذةَ نجاحِه ومن خلاله يجتاز كل عائق. امضِ أيَّها المبدع وامسك ألوانك، لتضعها لوناً بجانب آخر، كي تَعِمَّ رائحةُ البخور التي تمتزجُ مع نظرات العيون وإشارات الأصابع، وتكون النتيجة روحاً عراقيَّةً على قماشات الرسم.