وداد الأورفلّي.. عندما يتَبغددُ اللون

ثقافة 2022/05/28
...

 ميرا يوسف
 
قراءة اللوحة - أيّ لوحة- تتطلّبُ الاستعانة بتراكمات وجدانية واجتماعية وفكريّة وفنيّة تختلجُ داخل العقل والقلب فتدفع – أي هذه التراكمات- القراءة نحو وجهات جمالية  تجعل من خطاب اللوحة موجّها إلينا لحظة التماهي معها، فنكون نحن واللوحة في حوار صاخب سينتهي حتماً بأنّ يُقنع أحدنا الآخر بخطابه.. ولأنّنا هنا في موضع التلقي فالمنتصر هو اللوحة دائماً، لأنّها تمتلك أكثر من خطاب يجايل المتلقي المتغيّر، ولأنّني أعشق الأمكنة البغداديّة ونشأت تحت ظلالها مُذ وعيت الحياة، مثلما أعشق التجوال والتأمّل في مناطق وأزقة ومحلات وشناشيل وبيوت تراثية شكّلت ذاكرتي البصريّة، أجد نفسي دائماً مدهوشة أمام أعمال وداد الأورفلي، التي تعتني بالمكان حدّ أن تجعله يتأنسن بألفةٍ غزيرة وكثيفة، فينطلق نحوك ليجرّك إلى حيزه  اللوني ويحتويك. 
أنا بغداديّة جداً مثلما لوحاتها التي تأسرك بما فيها من ملامح كثيرة لعلّ من أهمها ما يمكن أن أدعوه (التبغدد اللوني)، إذ يظهر اللون بصفاء رائقٍ أنيق ومحدّد في اللوحة، فهي تعتني بالحدود اللونية التي تفرّق ما بين كتلة لونية وأخرى، وتحرص أشدّ الحرص على الحدّ الفاصل بينهما في أن يكون واضحاً جذّاباً، ممّا يجعل المنظور في لوحتها أكثر واقعية وحرفية. 
فحينما نتأمّل القباب وزوايا البيوت والأهلة والنخيل والشوارع التي تملأ فضاء اللوحة، سندرك أننا أمام عين دقيقة تنقل كلّ جزئية إلى مكانها تماماً من دون أن تنسى أنها في حالة (رسم)،  فينقلُ كلّ شيء وقد تشبّع بالدهشة والسحر والأساطير التي تجعل من مدن وداد مدنا حُلمية نألفها في الذاكرة التي تتمنى أن ترى الواقع كما يجب أن يكون في رسومات هذه العاشقة المولعة  ببغداد وحاراتها ومحلاتها وشوارعها العتيقة. 
ولدت الأورفلي عام 1929 في بغداد ودرست في (الجونير كوليج في بيروت) كأغلب بنات الطبقة الأرستقراطية العراقية آنذاك، ولكنّها تركت الدراسة في المرحلة الأخيرة لتعود إلى بلدها وتكمل دراستها في كليّة الملكة عالية ولتتخرج في قسم الخدمة الاجتماعية ومن أوائله في تخصّص يبدو بعيداً عن عملها وعالمها القابل، بعدها درست في معهد الفنون الجميلة لتنهي مراحلة العام 1960 في قسم التشكيل للدراسة المسائية.
ولعلّ ثمة محطات مهمة في تجربة وداد لا يمكن أن نفرّقها عن فنّها  يجب التوقف عندها أولها أنّ هذه الفنانة عمِلت في حقل مهني مهم يراه بعضهم لا يمتّ بصلة إلى الفن التشكيلي، بينما في حقيقة الأمر هو في صلب العملية الفنية، إذ عملت رئيسة لقسم الدعاية والإعلان في أكبر معمل للألبان في العراق، وكان الإعلان يومها فنّا مجهولاً، ولكنّ وجودها على رأس هذه المؤسّسة  بفكرها الفني وطبيعة دراستها وثقافتها الاجتماعية، كان له الأثر الكبير في زرع بذرة أولى لهذا الفن الاشهاري هنا، الذي للأسف ما يزال وبعد كلّ هذه السنوات يعاني كثيراً لأسباب لا يتسعّ لها هذا المقال.
والمحطة الثانية عملها في توثيق التراث الفني العراقي خلال عملها في دائرة التراث الشعبي، فقد أجرت دراسة شاملة لحرفة الطرق على النحاس في سوق الصفارين الشهير، وهذه المحطة التي تبتعد عن الإعلان والدعاية، أظنّها قرّبت وداد من جوهر الرسم وجعلتها تتحول إلى (حرفية) تطرق على قماش اللوحة بفرشاة واعية لها ثقلها الكبير، مما يمكن مشاهدته في أعمالها التي ظهرت بعد هذه المرحلة.
أما المحطة الثالثة فهي تأسيسها لقاعة (الأورفلي) عام 1983التي كانت فضلاً عن دورها الرئيس في احتضان المعارض الفنية واكتشاف المواهب، أشبه بورشة عمل لاحتضان الندوات واللقاءات التي تدور كلها حول التشكيل وعالمه.
تأمّل أعمال وداد يحلينا دائماً إلى المدينة (بغداد) خاصة، وإلى عالم مواز لهذه الأيقونة الساحرة  تجلبه هي من تشكيل المدينة داخل كتب التراث التي وثّقت لجغرافية بغداد التي تعيد دائماً وداد  رسمها بألوان جديدة باثّة فيها حياة ورؤى وخيالات وخواطر، ومن رموزها الأثيرة أيضاً  (النخلة) التي تظهر في أغلب لوحتها، وكأنّها كناية بليغة عن حضور آخر تريده هي ربما يكون المرأة أو أي رمز آخر تجده الفنانة يخصّب انساق الدلالات التي تحيل إلى المعنى الذي تقصده.
تنوعت اهتمامات وداد المعرفية والثقافية، فاقتربت من الموسيقى والكتابة، وكأنّها تريد أن تكمل لوحة حياتها المليئة بالإنجازات الكثيرة، ولعلّ أهمها عشرات المعارض الشخصية والمشتركة  في العديد من عواصم العالم.