الأمن الثقافي.. محاولة للحفاظ على وجودنا

ثقافة 2022/05/29
...

 البصرة: صفاء ذياب
يطرح مصطلح الأمن الثقافي إشكاليات عدة، أولها من تعريفه العام الذي يقول: (هو عبارة عن مجموعة من التدابير والقوانين يتخذها الإنسان من أجل تحقيق الحماية لنفسه ولماله ولممتلكاته ولعرضه، أو أيِّ شيء ثمين أو ذي قيمة لديه). هذا التعريف لم يحدد ما الأشياء الثمينة، غير أن الباحثين يحددون أن هذه الأشياء تكمن في المرجعيات الثقافية والفكرية التي تقف عليها أية ثقافة خاصة، محلية بالدرجة الأساس، من أجل المحافظة على الهوية الوطنية لكل بلد أو شعب 
أو فئة ما.
 
ويخلص الباحثون إلى أنَّ كل ركن من أركان الدولة والمجتمع معني بهذا الأمن، ابتداءً من الأسرة إلى المدرسة، مروراً بالمؤسسات الاجتماعية وصولاً إلى الدولة بما تمثّله من كيانات تسعى للحفاظ على الهوية الوطنية.
غير أنَّنا؛ في العراق، من الصعب الوقوف على هذه الأركان لأسباب عدّة، ليس أولها تفكك الدولة، معنوياً، وانهمام القوى الحاكمة- أحزابا وشخصيات- بمصالحها ومصالح من يموّلها، ومن ثمَّ ينسحب هذا التفكّك على الأسرة والمؤسسات الثقافية والاجتماعية التي تكون غالباً منطوية تحت جناح أحد الأحزاب أو القوى، حتى وإن أعلنت
استقلالها.
فما الذي عليها فعله في سبيل مراجعة هواياتنا العامة والفرعية والسعي للحفاظ على صورة هذه الهويات، من خلال الفولكلور ومرجعياته التراثية والشعبية، والثقافة التي تأسّست عليها طبيعة المجتمع العراقي، والعمارة والموسيقى وكلّ ما يمت للهوية الثقافية محلياً
ودولياً.
التهديد بالمحو
يشير الدكتور جاسم خلف الياس، أنه بعيداً عن مفهومي الأمن المجرّد والثقافة المجرّدة أو مقاربتهما وظيفياً لتوليد مفاهيم جديدة تتعلّق بالاقتصاد والسياسة والعسكر، وقريباً من مفهوم الأمن الثقافي، لا بدَّ من ربط هذا المفهوم بالعولمة التي بنت أسسها على تقويض العلاقات بين الأفراد والمجتمعات وانعدام مقوّمات التوازن بين الأنا والآخر، وظلّت مصدر استلاب وتخريب وسيطرة بالقوة، تسخّر فاعليتها بالضد من التعايش الإيجابي، والإفادة من الانفجار المعرفي، فشكّلت خطراً على كثير من الخصوصيات، ومنها الخاصية الثقافية للفرد والجماعة.
لذا لا بدَّ من ضرورة تحقيق الأمن الثقافي بوصفه (المخلّص) من التبعات الأمنية الأُخرى كلّها سواء تلك التي تتعلّق بالتطرّف والإرهاب والعنف الفردي أو التي تتعلّق بالسيطرة العسكرية على دولة ما وتجويع الشعوب وتخويفها عبر زعزعة استقرارها، فهو وحده القادر على الارتقاء بالقيم والقوانين والمعايير الساندة للحب والوطن بوصفها الوجه الناصع للمقدّس الفردي إذا جاز التعبير، وحمايته من غوايات الجنس والمال والمخدّرات الساندة للكره والتبعية بوصفها الوجه الكالح للمدنّس الجماعي الذي أخذ يسيطر على الوعي الثقافي الأصيل ليتحوّل إلى ثقافة عصرية مسمومة.
«هكذا أشعر بوصفي عراقياً مهدداً بالمحو والتشويه ولا اطمئنان على هويتي ما دمت محتلاً».
 
تحصين الشباب
ويرى الدكتور كريم ناجي، أن التأثير المتبادل يعدُّ من الثوابت الأساسية في العلاقات الإنسانية، وفيه فوائد لا تُنكر، ولكنَّه في الوقت نفسه يمثّل مصدراً للهواجس، لخوف كلّ جماعة ثقافية على هويتها، بسبب تباين التأثيرات في طبيعتها وأهدافها، فهي تتدرج من مستوى التبادلات المألوفة في الآداب والفنون والعلوم إلى مستوى التسلط والهيمنة وطمس الهوية المحلية.
مضيفاً: يتعرّض العراق دائماً إلى مثل هذه المشكلات لأسباب عدّة، منها تاريخه وموقعه الجغرافي وتركيبته الاجتماعية، وتختلف مصادر التهديدات فهي لا تقتصر على العولمة وهيمنة الثقافة الغربية، بل تتعدّاها إلى الحذر من مؤثّرات إقليمية، وقد يصل الأمر إلى قلق بعض مكوّنات المجتمع على هويته الفرعية من هيمنة المكوّنات الأخرى.
إنَّ الحل لا يكون في الانغلاق ورفض كلّ ما يأتي من الآخر المختلف، وإنَّما يكون في تنمية الشباب وتحصينهم وتوفير عوامل الإعداد الصحيح وفي مقدّمتها المؤسّسات التربوية والعلمية والإعلامية، وتحقيق الأمن في مجالات أخرى منها الجانب الاقتصادي، فالجيل المتعلّم الذي يعيش في وطن يوفّر له احتياجاته ويصون كرامته ومستقبله لا يمكن أن يقع فريسة للثقافات
المعادية.
 
مشاريع جماعيَّة
ويعتقد الشاعر رياض الغريب أنَّنا اليوم بحاجة ماسة وملحّة لترسيخ هذا المفهوم كوننا نملك جذراً حضارياً وثقافياً ونسعى كنخب ثقافية مسؤولة للدفاع عنه وإرساء قواعد حقيقية بعد أن تخلّت الدولة بمفهومها كدولة عن الأمن الثقافي في 
البلاد.
إن ما حصل بعد العام 2003 وما قبلها أيضاً مهّد الطريق للثقافات الأخرى للتغلغل وإيجاد أرضية خصبة للتأثير والتأسيس لثقافات هي في الأصل وافدة على الذات الثقافية العراقية، ومن هنا بدأ الخراب والانزياح حول المؤثّر الوافد من دون تحصين وترسيخ ثقافة حقيقية من نتاج العقل والذات العراقية، هذا المؤثر الخارجي وللأسف الشديد بدأ بلعب دور خطير يحتاج إلى عودة العقل الثقافي العراقي للاشتغال على مفهوم الأمن الثقافي من دون الابتعاد عن الثقافات العالمية كون العالم الآن أصبح وحسب المفهوم الحديث قرية صغيرة بسبب وسائل الاتصال الحديثة واجتياح التكنولوجيا بشكلها المعروف حالياً في العالم كلّه وما تنتجه من ثقافات مختلفة قد يكون بعضها يقصد التخريب والمحو لثقافة أيّ بلد.
«مرَّةً أخرى أقول للأسف، حتّى هذه اللحظة لا توجد لدينا خطط ومشاريع ومؤسسات حقيقية تشتغل على مفهوم الأمن الثقافي وإنَّ طرح موضوع كهذا الآن غاية في الأهمية لتأسيس وعي جمعي يعمل بجد وحرص على ترسيخ هذا
المفهوم».
 
إلغاء الهوية
من جهته يقول الفنان والشاعر عمار بن حاتم، “أنا كعراقي يعتز بهويته التي أرى أنَّها ذات خصوصية وعمق أشعر بالقلق وبالحزن وبالنقمة إزاء كل ما أشاهده من انحدار للوعي والرثاثة وانعدام للذوق وللثقافة وغياب للتعليم والمحافظة على القيم الاجتماعية إلى جانب التشوه العمراني والبيئي والتي تشير جميعها إلى حالة من التشوه الثقافي الذي أصاب الهوية الثقافية العراقية بفعل دخول العادات والتقاليد الغريبة ونفاذها إليها بكل سمومها وشوائبها واختلافها، من دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الهوية وتبنّي ما ينفعها ونبذ ما يسيء لها”.
لذا يشعر بن حاتم بالقلق على الهوية الثقافية العراقية ويخشى أن تتلاشى يوماً أمام موجات المد المتعاقبة ومن ثم ينتهي ذلك الوجود وتتلاشى الأسماء والمنجزات كنتيجة حتمية لضياع تلك الهوية ولا يصبح لها وجود أمام كلّ هذا الإلغاء والتشويه المتعمّد.. “يشاركني هذا القلق الكثيرون بعد أن صرنا نرى العالم كقرية صغيرة بلا حدود ولا حواجز ثقافية وأدّى انفتاح الثقافات وتداخلها إلى تسهيل عملية محو الهويات
الثقافية. 
وكذلك سهّل التخريب الذي مارسته الثقافات الغالبة القوية على نظيرتها المغلوبة الضعيفة التي لم تصمد أمام ذلك المد العملاق الذي جعل منها أنموذجاً يشبه الأنموذج الغالب”..
وهكذا يرى وبكل صراحة أنّنا نقف مكتوفي الأيدي إزاء موجات عظيمة من تسونامي مخيف، تكاد تكون موجاته المتعاقبة قادرة على تحويل ثقافتنا إلى ثقافة مغلوبة بعد أن كانت تمتلك مناعة إلى حدٍّ ما، وكانت بمعزل عنها قبل الاحتلال الأميركي بسبب العزلة الدولية التي كان يعيشها العراق وللقيود التي فرضتها الدولة البوليسية آنذاك على كل ما له علاقة بالتواصل مع العالم الخارجي والتي قد يجد تلك القيود مجحفة، لكنها منحت الهوية الثقافية مناعة لبعض الوقت أمام العولمة ومحاولات التشويه والإلغاء.