رقص الإلهة ارتميس

ثقافة 2022/05/31
...

 ناجح المعموري
جسد ارتميس الخاص بوصفه آليَّة لها كي تتمكن من معرفة العالم والبقاء فيه وكما قال مرلوبونتي، الإنسان يعيش جسداً مدمجاً في وسط العالم، ومسألة الجسد تطرح عنده في إطار الوعي بالعالم وإعادة تشكيل رؤية جديدة له.. أما الجسد الخاص فهو لإدراك العالم، حيث أعتبر أن جسدنا هو هذا الموضوع العجيب الذي يستعمل أجزاء خاصة كرمزية عامة للعالم، وتبعاً لذلك هو ما به تستطيع معاشرة العالم وفهمه وليبقى دلالة له. 
إنَّ الجسد الخاص يتصف ببقائه والدوام بالنسبة إلى الذات التي تعيشه عبثاً باطنياً، ففي حين يمكن للأجسام الخارجيَّة أن تبتعد عن وعي مجالي البصري، حيث يبقى جسدي الخاص حاضراً حضوراً مستمراً يوفر لي إحساسا مزدوجاً. 
علاقة الجسد الخاص مباشرة مع الذات، ومن هنا تتشكل أهميته ويبرز حضوره اللحظي الدقيق والمستمر، وتظل علاقة الأنا/ الذات مع جسدها داخلية لا يعرفها إلا الكائن، ووحده يشعر بها ويدرك المتغيرات الجارية عليه، أمام الجسد الخارجي حسب توصيفات «مرلوبونتي» فإنه لا يحقق معرفة واضحة للمجال العياني/ المرئي/ المكشوف للآخر، بمعنى يكون الجسد لامساً وملموساً.
 إنَّ هذا الجسد يوفر لي إحساسا بالحركة إذ يسمح هذا الإحساس بادراك حركات الجسد إدراكا مباشراً وكلياً، فإذا كان الجسد ملازماً لنا حسب مرلوبونتي أفلا يعد من الخلط المنطقي أن تعتبره موضوعاً، ألا يكون من الصعوبة بمكان إن لم نقل من المستحيل التمييز بين الجسد الذات والجسد/ الموضوع، هكذا يصبح الموضوع ذاتاً والذات موضوعاً.  وبالنسبة للإلهة ارتميس فإنّها ذات جسد خاص بها، إنّه ذاتها وفضاء اختبار صلاحيتها الجسدية المحافظ عليها بوصفها كياناً فيزيائياً وكيمياوياً. 
إنّه الذي حدد ورسم إطارها الألوهي الأنثوي وهذا يعني بأن الإلهة العذراء ذات وموضوع، وعي وفكرة، أي هي ذات أو موضوع معاً في آن واحد.   جسدها عبارة عن موضوع وجهاز مركب واداة للتعبير والكلام، فهو كل هذه الوظائف التي تجعل منه حاملاً وأداة ووسيطاً يتحقق عن طريقها وجودنا في العالم، بمعنى أن كل وظائفه مرتبطة بالحركة العامة للوجود في العالم.  
والسؤال الذي يتبادر للذهن من هي ارتميس؟ وقبل الإجابة لا بد من توظيف الفلسفة للاقتراب أكثر مما حصل قبل قليل إلى أن «الجسد الارتميس في صميمه إدراك وتعبير وحضور أمام العالم وأمام الآخرين.
 يلخص كل وظائفه «فيقول موريس مرلوبونتي: إن الجسد كائن في العالم كالقلب في الجهاز العضوي. ويقول أيضا لسنا فكراً وجسداً. لسنا وعياً قبالة العالم، بل نحن فكر متجسد وكيان في العالم بمعنى أن الجسد الارتميس ليس مجرد موضوع قائم بذاته أو مجرد شيء مستقبل منها، إنه جسدها وبذلك يحصل التحول المهم من الكوجيتو الديكارتي في فكري إلى جسدي. 
وتضيء لنا فعاليات ارتميس، الرقصة، رؤية معرفية جديدة اتخذت الجسد من فضاء باطني ضيق إلى فضاء خارجي/ محيطي/ العالم بكل سعته، بمعنى، لارتميس حضور عيني وحسي، وتتمتع بحضور جسدها من خلال فعاليَّة الرقص. تؤدي رقصتها وتقول عبرها «أنا حاضرة/ وموجودة» والرقص هو طقسي وعالمي الذي تأسس عبره نوعاً من التجارب ذات الإدراك الحسي. وهذا يؤكد لنا من أن الإنسان، موجود في العالم، وحقيقة العالم لا يتوصل إليها الإنسان إلا عن طريق الإدراك الحسي، فالعالم ليس ما أتعقله بل ما أحياه وفهم حقيقة الإدراك الحسي. يمكنني من تخطي هذه التفرقة الحاسمة بين الذات والموضوع، ولا كان جسدي هو الذي يرى الأشياء ويلمسها، فعن طريقه ينفتح على العالم، نرى الأشياء ونلمسها، وبما أن الجسد كائن في العالم، فهو شيء من بين الأشياء ذات وموضوع ناظر ومنظور حاس ومحسوس. 
رقص ارتميس نوع من الاندفاع القوي والشرس، لأن هذا العنصر من مكوناتها، ويطفح حتى في حالات استقرارها وسعيها للانتشاء من خلال السباحة في ماء العين أو عبر الرقص، إنّه اندفاع بالمفهوم الفرويدي حول الجنسانيَّة كقوة من الصعوبة التحكّم بها أو كبتها. والمعنى لمفردة الاندفاع في أحد تفاصيلها هو التحريض/ أو الاستنهاض. وما يسميه التحليل النفسي جنسيّاً لا يقتصر على عمل الجهاز الجنسي، بل يشمل أنشطة بدنيّة
وفكريّة.  في بعض الظروف الاحتفالية، يقدم الكائن البشري جسمه الخاص لكيان فاق قدرة البشر الذي يحاول الدخول في تواصل مع هذا الكيان. الرقص الشعائري قد يجسم جوهر التضحية. وبهذه الطريقة العنيفة لا يكون المقصود تحدياً لأعضاء مجتمعه، بل الأحرى تحدياً للمحاولة النهائيّة لسؤال نظام مجهول وتحدياً لاقتراح علاقة تعاقديّة مع الإله.
 ويبدو بأنّ رقصات ارتميس غير مرتبطة بموسم، بل هي حاجة تزاولها لحظة الإحساس بحاجة الجسد لها، وتستعين بالرقص للإعلان عن خاصية من خصائصها، ووظيفة من وظائفها، وحتى تتكرّس هذه الخاصية والوظيفة، يجب على الإلهة مزاولتها باستمرار. 
ومن المقبول جداً والموضوعي أن انتقلت رقصات الإلهة للجماعات المجتمعيّة، بالنسبة للرقصات الرسميّة الحية انتقلت شفهيّاً، وقام استخدامها مقام الكتابة في بعض التجمعات أو الجماعات الاجتماعية المعاصرة، ويتكشّف أنه لا بد من تعلّمها بدقة تسلم أغلب الأحيان بشكل مساري، ويجعل هذا الإطار من الراقص حامل السر. 
والراقص الطقوسي، هذه الشخصية الفوضويّة، يدخل جسمه في تجربة مؤلمة. تجربة انعدام الإله، تشكل الرقصة عندئذٍ، ليست محاولة للتواصل، بل نشاط فارغ.
 وحقيقة الرقص الشعائري موجودة في أعماق المقدس، مثلما لا حقيقة له خارج الكل العضوي. لم يكن الجسد بعيداً عن أسطورته بالنسبة للإلهة ارتميس بل هو طافحٌ بها وطافٍ عليها. كله أساطير وهي كثيرة ومتنوعة. لأن الجسد الارتميس متعدد الخصائص ومتنوع الوظائف، وبكل من خصائصه ووظائفه أسطوريته الخاصة. ورقصتها إعلان عن عنصرها الإلهي الخاص بالرقص، نقول عليه بأنه شعائري، لأنّها إلهة، لكنني أعتقد بأنه شعائري، وأيضا له ارتباط معها بوصفها عذراء مختلفة تماماً عن الإلوهات العذراء في حضارات الشرق. وتضيء الأنظمة الثقافية القديمة مشتركات بينة بين الدين والرقص، وبين الرقص والخمرة، كذلك كان الرقص من الطقوس التكميلية لطقوس الزواج الإلهي المقدس، تصاحبه الموسيقى المتنوعة، هذا يومئ إلينا عن المشترك بين الرقص والرغبة، الرقص والجنس. 
وأعتقد بأن مثل هذه الإلهة الوقحة/ الشرسة/ المتمردة، المهيمنة على كل ما في الحياة، وظفت عناصرها لتأكيد كل صفاتها ومزاولتها لإزاحة جسدها من لحظة غضبه الشهوي وتمرّده عليها، فتلوذ بالرقص ومن بعده النزول الى عين الماء. رقص الإلهة إعلان سري على قدراتها المعروفة وطاقتها في السيطرة على الحياة. وطقوسها الرقصيَّة قوتها المعلن عنها بعددها الحربيَّة التي كشفت عنها أساطيرها، وخاصية الحرب من ضرورات الأنظمة الشرقية بعد تطورها من دويلات مدن، إلى دول وامبراطوريات، حتى قبلها كان للقوة حضورها، لأن الحياة موزعة بين الخير والشر، ولكل منهما عقائده ونصيبه من الآلهة، وعلى سبيل المثال، كان الإله اهريمان مسؤولاً عن الخير في الديانة الزرادشتية، والإله اهريمان مسؤولاً عن الشر في الحياة، وتفضي بنا طقوسيات ارتميس  إلى أن رقصاتها تأكيد على تمركز الخير في الحياة، وهيمنة ضوابطها الإلهيّة المتوارثة. وهذه الخصائص المهمة هي التي منحت ارتميس مكانة متسامية، ليس في بلاد الإغريق وإنما خارجها.رقص ارتميس، طقس خاص بها، ومن خصائصها المميزة لها وجعلت منه من الفعاليات المقدّسة جمعيّة، من خلال حيازتها لعشر عذراوات ويضفي هذا العدد صفة جمعيّة. ويمنحها ـ مع عذراواتها ـ فرصة التأكيد على الطقس واتساع مساحته. والممنوحات لها جئن بأمر من رب الأرباب زيوس. وظل هذا العدد مصاحباً للإلهة في طقوسها وفعالياتها، لكن المهم في دلالة العدد الرمزية، إنه دال على الكثرة، وهكذا وظف في التوراة/ العهد القديم، لأن الإلهة لا تريد لجمهورها أن يكون ضئيلاً، ويفضي في جانب آخر إلى أن نظام العذرية وضوابطه الثقافيّة/ والدينيّة/ والاجتماعيّة قاسية وحادة جداً، كما أنّها تعني عدم توسع نظام العذريّة لأن الأنثى لا تريد تعطيلاً لوظائفها الجسديّة، بمعنى أنها تحوز صفتها الأنثويّة عبر الزواج والحمل والإنجاب. لم تكشف الأساطير الخاصة بالإلهة ارتميس حجم طقسها الرقصي، وكم مرة يحدث؟ 
وفي أية ظروف يكون؟ لكننا نرى بأن مزاولتها والعذراوات له يتبدّى عن رغبة وسبق إصرار لتكريس هيمنتها الثقافية والدينية على جسدها وأجسادهن ولا يسمحن له بالامتداد الخارجي، لأنّها طلبت من والدها زيوس أن يمنحها عشر عذراوات لكنها ـ كما أرى ـ حاولت تطمين جسدها في اللحظة التي تتصاعد بها طاقته الجنسانية وتذهب عندها إلى فضاء الرقص، بوصفها نوعاً من الاتصال الرمزي وإشباعا لحاجات جسدها المتحفز.  وطقس الرقص نوعٌ من إرضاءات الإلهة لجسدها وبالطريقة التي تجعلها مقوّضة لنظامها الديني، هذا الرقص إعلان عن جسد الإلهة المحتاج لآلية قادرة على تخفيف قوته اللذية وطاقته، لأنه بحاجة للاستهلاك حتى لا يُصيبه الفساد. 
أضفت الثقافة الاغريقية القديمة مكانة عالية ورفيعة لطقس الرقص أو فنه، إذ أعتبر أن الإنسان غير المتعلم (بأنه شخص لا يعرف الرقص)، وأن يكون الرقص هو العلاقة الفارقة للإنسان المتعلم. وهذا يعني، أن الرقص، وقتذاك كان بمثابة الملح للطعام في المجتمع حيث من خلاله ، أو اعتماداً عليه، كان يسهل نقل المعلومات، ويتم التثقيف أو تنشأ عملية التربية بالذات.. ومن هنا، أكاد أجزم، من أن الرقص سلوك جمعي، استقطابي
عام.