منطلقات الأمن الثقافي

ثقافة 2022/05/31
...

 د. طه جزاع
 
يبدو للوهلة الأولى أنَّ (الأمن الثقافي) هو أقل المصطلحات تداولاً في ما يخص قضايا الأمن، إزاء مصطلحات أكثر شيوعاً كالأمن الوطني والأمن القومي والأمن السياسي والأمن الغذائي والأمن السيبراني وغيرها، لكنه في حقيقة الأمر من أكثرها تداخلاً مع قضايا الأمن الأخرى، وأهمها تأثيراً في الأمن وأبعاده المحليّة والإقليميّة والدوليّة، بل وتفقد جميع تلك المصطلحات أهميتها ومعناها وجدواها إن تم التفريط بالأمن الثقافي للبلد. 
وترتبط إثارة هذا الموضوع عادة بمدى استقرار البلد أو اضطرابه، فكلّما ساد الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي في بلدٍ ما، فإنَّه لا خوف على أمنه الثقافي، ولا خشية من ضياع ملامح ثقافته التي تمثل أهم ركيزة من ركائز هويته الوطنيّة، ويبدو السؤال عن الأمن الثقافي في مثل هذه البلدان المستقرة والمتماسكة اجتماعياً والمكتملة سيادياً، ضرباً من ضروب البَطَر، إن لم يكن لعبة صالونات برجوازية سوفسطائية للتسلية الفكرية وتمضية الوقت لا أكثر، غير أنّه يصبح من أهم الأسئلة وأكثرها خطورة حاضراً ومستقبلاً في البلدان غير المستقرة وغير المتماسكة التي تتلاعب بمصائرها الإرادات السياسية المتنافرة، وقوى السلطة المتناحرة، والأجندات الإقليمية والدولية المؤثرة الباحثة عن مصالحها القومية وتأمين مجالاتها الأمنية الحيوية التي تتمدد باستمرار نحو البلدان الضعيفة القريبة منها، من دون صعوبات حقيقيّة، ومن دون ردع قوي يوقفها عن التوسّع والتمدّد والتوسع في المفاهيم الستراتيجية التي تعتقد أنها تُؤَّمن لها المجال الحيوي الذي يحمي حدودها وأرضها وأمنها واقتصادها، ولو على حساب ضعف وتفكك وانهيار تلك البلدان.
وفي حالتنا العراقية، يبدو الحديث عن (الأمن الثقافي) ضرورة ملحّة لا مناص منها، بل ينبغي أن يكون هو السؤال الأهم في حياتنا المعاصرة، وهو بكل تأكيد ليس مجرد سؤال أو هدف ثقافي- فكري، إنما هو هدف ذو أبعاد حضارية مستقبلية، تتضمن الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية والوطنية والإنسانية، وهو أيضاً- وهذا هو الأهم- مرتبط بالمفهوم الشامل للهوية الوطنية، هذه الهوية التي أصبحت مثار جدل ونقاش يصل إلى حد التشكيك أحياناً، بل ونفي البعض لوجود مثل هذه الهوية للشعب العراقي مستندين إلى مقولات قديمة، منها ما هو منسوب إلى الملك فيصل الأول في السنوات الأولى لتأسيس الدولة العراقية بداية العشرينيات من القرن المنصرم، تضمنت اعتقاده بأنه «لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء، ميالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتفاض على أي حكومة كانت»، وقد يكون ذلك صحيحاً في وقته، لكن لا ينبغي إهمال أكثر من ثمانين عاماً تبلورت فيها ملامح الهوية الوطنية العراقية على الرغم من الملاحظات الكثيرة التي لا تنفي أن العراقيين شعب متعدد الأعراق والديانات والمذاهب والملل والنِحل- شأنه شأن أي شعب آخر- لكنه شعب له هوية وطنية هي الأساس في أمنه الثقافي المتنوع والمتنور ومتعدد الإبداع العلمي والأدبي والفني الذي يمثل روح هذا الشعب الذي تعرض لمحن عديدة ومتتالية ليس آخرها الاحتلال الأميركي الذي كان واحداً من أهدافه الكبرى تشويه تلك الهوية، وسحق الدولة، ومحو العراق، وتفكيك المجتمع وإعادته إلى عناصره الأولية المتنافرة التي تتمسك بهوياتها الفرعية على حساب الهوية الوطنية، مما يعني من ثمَّ خرق الأمن الثقافي ومحاولة تدمير أسسه وبناه التحتية ومرجعياته ومنطلقاته الحضاريّة والإنسانيّة.
ولا شكّ في أنّ العراقيين بعمقهم التاريخي، ومسيرتهم الطويلة في بناء الحضارة الإنسانيّة، ولا سيّما في جوانبها الثقافيّة الإبداعيّة، يوم كانت بغداد مصدر إشعاع للعالم أجمع في مختلف العلوم والفنون والآداب، لم يرضخوا بسهولة لمثل هدف كهذا، إنَّما سدّوا ثغرات الثمانين عاماً بنتاجاتهم الإبداعيَّة التي جاءت بعد العام 2003 والتي يمكن عدّها استكمالاً لما لم يكتمل سابقاً لأسباب عديدة، ومنها النتاجات الثقافية العراقية، تأليفاً وبحثاً ونشاطاً وحراكاً ثقافياً، سواء داخل العراق أو خارجه، مما يصب في ترسيخ الأمن الثقافي وبناه التحتية- إن صح التعبير- وهي البنى التي تؤمن أولاً بالهوية الوطنية العراقية أرضاً وشعباً واحداً في دولة ديمقراطية قوية حرّة كاملة السيادة يخضع فيها المواطن لسلطة القانون وحده، وتدرك ثانياً ضرورة الانفتاح على جميع الثقافات من دون أن تندمج فيها بلا هوية واضحة، وتعمل ثالثاً على التصدي لأية محاولة للتهميش أو الاقصاء أو التشويه أو الإساءة المتعمدة لأيٍّ من المكونات أو الثقافات الفرعية، وتؤسس رابعاً لمنطلقات تعزز روح الأمل والتفاؤل بالشخصية العراقية وطبيعتها الخيرة والإنسانيَّة المستمدّة من ثقافتها ومعتقداتها وعاداتها وتراثها وعمقها الحضاري المعروف للعالم أجمع، لا سيما أن هذه الشخصية قد تعرضت لحملات تشويه إعلامي واسع النطاق في العقود الأخيرة، مثلما تعرضت لجلد الذات من دون مسوّغات موضوعيّة، وتتبنى خامساً فلسفة تربوية قوامها الإيمان بقدرات العراقيين المبدعين في ميادين الحياة كلّها، وأساسها هذا الخزين الحضاري والثقافي والفلسفي لبلاد ما بين النهرين وامتداداته الوطنيّة، وتعمل سادساً وأخيراً على التبصير بأنَّ الأمن الثقافي هو جزءٌ لا يتجزأ من الأمن السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وإن وحدة الهويّة الوطنيّة العراقيّة هي الكفيلة بالتصدي لأية محاولة لتشويه أو محو الإرث الثقافي لهذا الوطن- الهويَّة.