أسئلة الأمن الثقافي

ثقافة 2022/06/01
...

 أ. د. جليل وادي  
ليس عبثاً تكرار التأكيد على الهوية في خطابات الاعتزاز الثقافي، وهي بطبيعة الحال الهوية العربيّة الإسلاميّة، ذلك أن الخصوصيّة والشخصية القوميّة للأمة لا يمكن لهما التحقق ما لم تكن هناك هوية محددة، يجري العمل على تمتينها وتكييفها في وفق ما يشهده عالمنا من متغيّرات.
 
 لكنَّ الفاعل العربي على اختلاف مجالات اشتغاله غالباً ما يكتفى بما هو إنشائي من الحديث من دون أن يلتفت إجرائياً لما يقوم به الآخر من عمل دؤوب على تذويب هذه الهوية، متسلّحاً بوسائل وآليات أثبتت التجربة فاعليتها في إحداث التغيير، ويعمل بشكل ممنهج على تطويرها، مقابل اعتمادنا على ما هو تقليدي في عمليات التصدي، وعجز واضح عن استنباط ما هو جديد من واقع صراع الهويات الجاري في العالم راهناً.
وإذا كانت عملية التذويب التي يمارسها الآخر لم تنطلق في ما مضى من عقود من إرادات حاسمة باتجاه جر العالم النامي بضمنه العربي إلى فضاءاته الثقافيَّة، غير أنَّ ظاهرة التوسّع التي يجهد المتغير الاقتصادي للوصول إليها جعل من تذويب هويات الآخرين هدفاً ثميناً لا بدَّ من بلوغه بصرف النظر عن المدد الزمنيَّة التي تقتضيها هذه العمليَّة. وعلى هذه غدا الصراع الثقافي قائماً بين إرادتين إحداهما ثابتة والأخرى ديناميكية، ومن ثم لا بدَّ من أن يكون الحسم لحساب تلك التي تملك زمام المبادرة وتتسلّح بآليات تتيح لها إنجاز أهدافها، وفي مقدّمتها وسائل الإعلام القديمة منها والجديدة، فضلاً عن الفعاليات الاتصالية المختلفة، وعليه لن يشهد الأمن الثقافي انتعاشا، ما لم نرسم له الستراتيجيات المناسبة والمعدّة على أساس علمي. 
 
فوضى وأسئلة تاريخيَّة
يشير الواقع إلى أنَّ الفوضى هي الغالبة على عملنا الثقافي، إذ لم تضع المؤسسات القائمة عليه نصب أعينها خطورة ما تنطوي عليه عمليات انتهاك أمننا الثقافي المقصودة منها وغير المقصودة، ومع ذلك علينا الإقرار بفقدان سيادتنا الثقافية قبل الحديث عن الآليات التي من شأنها المحافظة على أمننا الثقافي، لاسيّما أن مظاهر اهتزاز منظومتنا الثقافية بات واضحاً، وأنَّ صمودها حتى الآن مرتبط بالميكانزمات التي تنطوي عليها هذه المنظومة التي قد تنهار بمرور الزمن بفعل ما يشهده المجال الاتصالي من تطورات تكنولوجية يتحكم بها الآخر المهيمن واقعاً، وما تنتجه هذه التطوّرات من قيم وعادات وأنماط حياتية وثقافية مستحدثة قد يسهم بعضها في خلخلة العلاقات بين مكونات منظومتنا الثقافية. 
ليس من العسير تحديد المؤسسات وآليات التصدي وتوظيفها لما يعزز الأمن الثقافي، لكن الصعوبة تكمن في حسم الجدل إزاء قضايا شائكة كالأصالة والمعاصرة والموقف من المواكبة والمغايرة، وتوصيف مفهوم الاستنارة وتحديد معاييره ليتسنى لنا بلورة نوع المضمون الثقافي الذي يراد له الشيوع في الوسط الاجتماعي بوصفه حصناً منيعاً لحماية المجتمع من العناصر الثقافية الدخيلة التي تتقاطع مع المنظومة الثقافية التي نعمل على ترسيخها لصياغة شخصية لها من الثقة بالنفس ما يؤهّلها للدخول الآمن للمستقبل.
وهنا تُطرح أسئلة تاريخية لطالما كانت محوراً للنقاش، بضمنها: أية ثقافة نريد؟، وما يرتبط بهذه القضية من قضايا أخرى كالمصادر التي تستقي منها هذه الثقافة عناصرها، وكيفيَّة التخلّص من الأمراض المزمنة التي تعانيها ثقافتنا السائدة، فضلاً عن الإصلاحات التي يفترض إجراؤها على الوكالات التي يستعان بها لحماية أمننا الثقافي، ونشر الثقافة المعززة للهوية. 
 
أيَّة ثقافة نريد؟
يكمن جانب من أزمتنا الثقافية في عدم تحديدنا لطبيعة الثقافة التي نريد لها الانتشار والتي نظن بأنَّها قادرة على التنوير وصناعة مجتمع المستقبل الذي يفترض أن تتسم ثقافته بخصائص مغايرة في بعض جوانبها لما هو سائد، لكنَّ هذا السؤال لم يحظ حتى اللحظة باهتمام كافٍ من الجهات المعنية بالشأن الثقافي التي أعتقد بعضها أنَّ جلَّ العمل يتجسد في تسيير الأمور الثقافية وليس صناعة ثقافة مستنيرة، كما أنها لم تضع في الحسبان أنَّ سد الفراغ الثقافي يقتضي عملاً سريعاً عبر مختلف الوسائل المتاحة إذا ما أريد للمجتمع تحصيناً، فالثقافة حاجة أساسية، ومدخل جوهري لحلِّ أزماتنا المستعصية في مختلف المجالات.  
ولكي لا يصبح الأمن الثقافي فكرة ضبابية لا يمكن الإمساك بها، لا بدَّ من الوقوف على طبيعة الثقافة المرغوب فيها التي نفترضها معاصرة وتستمد نسغها من الخزين الثري والمشرق الذي ينطوي عليه تراث الأمة ببعديه العربي والإسلامي، ومنفتحة على ثقافة الآخر لتمثّل ما استحدثه من قيم ومفاهيم وتجارب، والتوافق مع متطلبات المستقبل، وتحرير الراهن الثقافي من هيمنة الماضي، والمنظور المتخلّف لبعض القوى والتيارات في التعاطي مع الحاضر. 
لقد أثبتت التجربة الماضية عدم تشكّل منظومة ثقافية متماسكة يكون بمقدورها الصمود إزاء التحدّيات التي واجهت المجتمع، وأنَّ مجموعة القيم الإيجابية الموروثة لم تنتظم بشكل صحيح في سلم قيمي يجعل منها أداة ضبط اجتماعي تقف حائلاً أمام قيام الأفراد بسلوك متعارض معها، إذ شهد السلم القيمي ارتباكاً واضحاً، أتاح لقيم سلبية البروز، في حين دفع بأخرى إيجابية إلى التراجع. 
 
بأيّة وسيلة؟
يتحقّق الأمن الثقافي وتتشكّل الثقافة المستنيرة عبر مؤسّسات عديدة كالمدرسة ودور العبادة ووسائل الاتصال الجماهيرية والمواقع الالكترونية وغيرها، لكنَّ عدم السيطرة على هذه المؤسّسات من شأنه تعريض الأمن الثقافي لخروقات قاتلة، فضلاً عن إنتاج ثقافة عشوائيّة، او في أقل تقدير غير منسجمة مع الأهداف التي من شأنها تحصين المجتمع. وقد أكّدت الوقائع أنَّ مؤسساتنا تعمل على هواها، أو بحسب ضغوط أو تأثيرات واقعة عليها، وذلك أطال عمر المشكلات والأزمات الثقافيّة التي نواجهها، وأنتج أخرى جديدة. 
الأمن الثقافي مرهون بوسائل معيّنة من دون سواها، لا سيّما أن الأدوار الثقافيّة التي تقوم بها بعض المؤسسات لم يعد يعوّل عليها كثيراً لمحدوديّة إمكانياتها وتخلّفها، أو أنَّ دورها الثقافي يأتي لخدمة أيديولوجيا معينة، أو لانشغالها بميادين أخرى، وعليه لا بدَّ من إسناد هذه المهمة لوسائل أكثر تأثيراً وفاعليّة في الوسط الجماهيري، وأقصد بذلك المدرسة ووسائل الإعلام بعد إصلاحهما. لن ننعم بأمن ثقافي من دون برنامج عابر لتناقضات الواقع الثقافي، فما زال الكلام الذي يدور حول أمننا الثقافي عابراً وهشَّاً. وهذا ما تحسّسه القائمون على هذا
الملف.