أكرم ناجي.. الخزف متلبساً بالتصوّف

ثقافة 2022/06/01
...

  خضير الزيدي 
 
أفهم الأسباب الموضوعيَّة التي تجعل من خزفيَّات أكرم ناجي ذات طابع ثنائي، فلا غرابة أن نجد في أعماله تكراراً لهذه البنيات الشكليَّة، فهو يعي أنَّ الحياة بدأت من نقطة تكوين مبنيَّة على مرجع ثنائي (رجل وامرأة)، (حياة وموت)، (غياب وحضور)، وفهم هذا التكامل تمَّ نقله عبر تكويناته الخزفيَّة انطلاقاً من إمكانيته الصارخة بفنِّ الخزف واهتمامه بنزعة تجريديَّة تتصف بالمتانة الأسلوبيَّة. 
ندرك أنَّ مواجهة وصعوبة فنِّ الخزف تجعل من أكرم ناجي متأمّلاً وغير متسرِّع في إبداء فكرته الجماليَّة والفنيَّة، فهو يميل لقبول التطور في الفنون ويبرهن على أن توفير مساحة واسعة الغرض منها الاحتكام لغاية الفن وحقيقته وظواهره الجماليَّة في هذا الوقت، إلى جانب ذلك هناك إحاطة وفهم لصناعة عمل يمثله ويتبنى خطابه ليكون متوازيا مع رغبته وقراءته للواقعي. 
في أعماله لا نجد ميلاً للغريزة مع أنَّه يخلط عمله بطابع الثنائي كما في عمله (رجل وامرأة) على العكس تنتهي إحاطة الجانب الفني بشيء من تأمّل للمنجز الشكلي يتعقبه إيقاع شفاف من رؤية الأسلوبيَّة الثابتة يوجهها التجريب المتواصل في تحقيق قراءة بصريَّة متجدّدة، لهذا فإنَّ من يراقب منجزه الجمالي يصل لقناعة مفادها أنَّه بعيدٌ عن الطابع الزخرفي أولاً، وميَّالٌ لغواية حركة متينة في أشكاله، مما يجعل المتلقي يواجه عملاً ذا صيغة معقدة من بنائيَّة غريبة في 
الشكل. 
ارتبط هذا الأسلوب بحدود معرفته بأسرار فنِّ الخزف والصعوبة التي تواجه الفنان وهو يبدي رغبته في إنجاز فكرة معينة، لكن مع أكرم ناجي هناك ديمومة في الشكل وإن كان غريباً تحدّه المخيلة والألفة معا.. مخيلة قابلة لتكسر كل ما يمتلك الرتابة في البنائيَّة والفنِّ وألفة ترجّح تلك التكوينات لتكون خطاباً متكاملاً من حيث عناصرها وطبيعة الألوان التي تمتلئ على سطوح الخزفيَّات. 
نعم نجد أشكالاً معقدة في البنائيَّة وهي تمضي على وتيرة متساوية لو تمعّنا فيها، لكنّها في الأخير تمدّنا بإيقاع داخلي متفرّد يكمن في تصعيد خيال الشكل وتحوله واختيار النماذج الحيَّة، نماذج من قبيل أعمال تحمل الحروفيَّات وتزداد احتكاكاً بالرموز الشكليَّة ذات الطابع الصوفي، من حيث نوع الخط وطبيعة الحرف، ولأنَّ مساحة فنِّ الخزف ضيقة، تلعب الموهبة والمهارة دوراً كبيراً في تفسير حمولاتها الدلاليَّة وإشاراتها السيميائيَّة.
لنعد لتلك الثنائيَّة في أعماله، هناك جانب نظري وفني يلحُّ عليه، وهو نتاج فهم للحداثة وخطاب العمل، بل والمخاطرة في إبداء فكرة معينة تنتصر فيها آليَّة الاشتغال على حساب عاطفة الفنان. إنَّه يريد لنا أن نحمل فكرته ونجاري رمزيتها، ولكن غاب عنا ونحن نقترب من أعماله أنَّه يصنع هويته الفنيَّة بكلِّ هدوءٍ وتأنٍ، فلا يعتاش على طرح تنظيرات غريبة على فنِّه، ولم يزد من أشكاله قدراً من البهرجة اللونيَّة أو الزخرفة التي تستعر أمام المتلقي، وجد بنية شكليَّة لا تعيق فكرته واختزلها في نماذج نراها أمامنا ضمن نسق متكامل له ديمومة وتجلٍّ صريح، وفي الغالب من تلك الثنائيَّات يريد الاختصار والانتصار للمدلول مع أنَّه يوفق في إيجاد علامات غنيَّة بالمعرفة، لكن مواصلته مع الحروفيَّات تقدم شرحاً من نوع الالتباس (بالتصوّف) فهو لم يكن صوفيَّاً في طرحه للفنِّ، لكنَّه يضمر نوعاً من قوّة كامنة في العمل تشير لتلك المشاعر وهذه الرؤية واحدة من الالتباسات التي تصيب متلقي أعماله الفنيَّة بالدهشة.. شاءت ماهيَّة منجزاته أن ترينا تجربة خلّاقة وفهما ومهارة لما يبديه أمامنا مع استقلاليَّة في الأسلوب والتفرّد به، إذ بدت المواضيع التي يتناولها محتفظة لتلك التلقائيَّة لها تجليّاتها ونكهتها الاجتماعيَّة من جهة، ومسحتها الصوفيَّة من جهة ثانية، فالفنان يحاول أن يكوّن معماريَّة في بناء حركة أشكاله الخزفيَّة وأيضا يبدي موقفاً اتجاه دوره التعبيري في الفن، وهذه التصورات نستشف منها أنّها ذات معتقد وموقف محتدم من الحياة وفهم الفن، وما يحتاجه يرتبط بمعتقد يبحث له عن توظيف، نجاح الفكرة من عدمها ونزوعها نحو الغموض واللعبة التجريديَّة لا يوفر لها تكاملاً من دون توظيف مميّز، لأنَّ الفنان يؤمن بقدرة ومستوى الثقافة والتأثير البصري في الآخر، وإسهاماته عبر مدار سنوات ومعارض متعددة جعلتنا نصفه بالمثابر الذي يمتلك قدرة في أن يثبت وعينا اتجاه أطروحاته الشكليَّة، لكن التعاطف معه شيء وفهم منجزه شيء آخر، فهو يخطط لنهاية ذات طبيعة مرنة في التحوّل ومتابعة نشاطه الفني، أضف لذلك لا يريدنا أن نلتفت لتفاصيل ذات بعد شكلي مرتهن للغموض، فهنا ينبّهنا إلى قدرة العمل داخليَّاً.  إنَّه أمرٌ نادرٌ بحق أن تصغي للخزف وتقع تحت تأثيره، بينما تحقق مخيّلة هذه الخزاف الماهر إرثاً يجمع بين الانتماء للتراث الفني مع يقين بالمضي قدماً في توسيع الاتجاه الحداثي في الفن.