شوقي جلال: العرب مفلسون ثقافياً وحضارياً

ثقافة 2022/06/02
...

 هشام أزكيض*
 ولد شوقي جلال بمنطقة الإمام الشافعي بالقاهرة عام 1931، ونشأ في أسرة تهتم بأشكال الثقافة الملتزمة، وكان والده شغوفا بالعلم والقراءة والموسيقى. هو مؤلف ومترجم وأكاديمي دقيق جدا، غزير النتاجات بين التأليف والترجمة، تحصل على ليسانس فلسفة وعلم نفس من كلية الآداب في جامعة القاهرة عام 1956. 
أهمية جلال أنه يوائم دوماً في نشاطه الثقافي بين الفكر والممارسة، ويربط حركات الترجمة في الأقطار العربية بمواقف أصحابها السياسية والاجتماعية والثقافية، فينظر إلى الترجمة كنشاط تنويريّ يساند النهضة الثقافية للواقع العربي. من هنا كانت له مواقف نهضوية تدعو إلى التغيير والتنوير والتطور ما تسبب بسجنه لأكثر من مرة في عهد الملك فاروق والرئيس عبد الناصر أيضا. 
أسهمت مؤلفاته المتنوعة والغنية في إثراء المكتبة العربية ومن أبرزها نهاية الماركسية، التراث والتاريخ: نظرة ثانية، الفكر العربي وسوسيولوجية الفشل، الترجمة في العالم العربي: الواقع والتحدي، أركيولوجيا العقل العربي. كما أنه من أهم وألمع مترجمي الكتب والبحوث العلمية عن لغات مغايرة لا سيما في سلسلة «عالم المعرفة» الشهيرة التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في دولة الكويت وزارة الثقافة بالكويت ومنها: الآلة قوة وسلطة، بنية الثورات العلمية، تشكيل العقل الحديث، أفريقيا في عصر التحرر الاجتماعي، العالم بعد مئتي عام. حاز مستحقاً العديد من الجوائز عن نشاطه الكتابي بين التأليف والترجمة وأبرزها جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وجائزة رفاعة الطهطاوي للترجمة عام 2019. كان لنا معه الحوار التالي:  
 
* أنتَ تنتمي إلى جيل معروف بثقافته الواسعة وإسهامه الكبير في تشكيل الوعي المصري والعربي، فهل يمكنك أن تخبرنا بخصوصيات ذلك الجيل؟
- أنا ابن جيل الحركة الوطنية المصرية التي تميزت بصحوة علمية وثقافية وطُمُوح لمنافسةٍ ندِّية مع الحداثة الأوروبية، عمادها المعرفة العلمية والاستقلال الوطني والمواطَنَة والعلمانية. توالت جهودنا لمحو الأمية وإنشاء المؤسسات التعليمية حتى الجامعة، مع الحفاظ على التّفاعل الحُرّ والسَّمْح مع ثقافات وعلوم أوروبا والشعوب المقهورة. تطلعَ جيلنا بأملٍ وثقة من أجل بناء مصر المستقلة المُتحضّرة، والقادرة على الإسهام الجادّ في الانجازات العلمية وتطوير المجتمع والإنسان. كما اعتدنا أن نستشهد بقادة وطنيين، وعلماء مصريين كرّسوا جهدهم لذلك، مع سيادة روح المواطَنة، والإيمان بأن مصر العلمانية هي الهدف، وأنّ الأمّة مصدر السّلطات وأنْ لا تقدُّم من دون إنسانٍ مُواطن حُرّ تحت سلطةِ نظامِ حكمٍ حديث أهم أركانه مؤسسات مُنتخبَة ونزيهة تضمن الفصل الحقيقي بين السّلطات الثلاث التي تمثّلُ في مجموعها جهاز الدولة الحاكم: تنفيذية وتشريعية وقضائية. 
 
* ما هي أهم الكتب والمجلات التي أثّرتْ فيك، قبل أن تشرَع في عملية الكتابة؟
- كانت مصر في الثلاثينيات والأربعينات تزخرُ بالكثير المُتنوِّع من الكُتُب والمجلات في الأدب والعلوم والإنسانيات العالمية والمحلية. أذكرُ هنا من الكُتُب تاريخ الأديان، وديانات الشّرق، وفلسفات الغرب، وأبطال الحرية في العالم، ومنشورات الفَلَك. ومن أهم المجلات التي قرأتها بشغف: الثقافة، والرسالة، والمقتطف ومجلّتِي، والكاتب، وغيرها. 
 
* كيف تنظر اليوم إلى علاقة الإنسان العربي بالقراءة والثقافة؟
- قبل الإجابةُ أسائلُ بشكلٍ عام: ما هي طموحات الإنسان العربي الآن في عصر ثقافة الاستهلاك وانعدام الحريات؟ والحياة الأسيرة لموروث ثقافيٍّ قديم مُتحجِّر؟! لقد تدنّتْ رغبةُ القراءة وتلاشى الفضول المعرفي والرّغبة في التثقيف الذاتي طمعاً في توفُّرِ القُدرة الاستهلاكية باتجاه ما هو غريزيّ، فضلاً عن غلبَةِ الفقر. 
 
* نجاحكَ الكبير بالتّرجمة يدفعني إلى التساؤل عن أسباب دخولك إلى عالمها؟
- اقترن حبي للقراءة والتثقيف الذاتي برغبتي الكبيرة في أن يشاركني الآخرون المعرفة ومن ثمّ إرادتي القوية والعفوية في تقديمها للجمهور. الترجمة جزء من النضال السياسيّ لنقل المعرفة والانفتاح على ثقافة وتجارب الآخرين باعتبار الفِكر أداة لتغيير الذهنية العربية. في الخمسينيّات حرمتُ من حقوقي السّياسية وحقِّ التّعبير، بل حقّ العمل، فوضعتُ خطّة أن أتحدثَ بلسانِ غيري، وأقدّم الفكر الداعم للتطوير.
 
* ما هي أبرز صعوبات الترجمة؟
- القدرة على استيعاب المحتوى، والدّلالات الثّقافية والفلكلورية والعاطفية في لُغَةِ الآخَر، والتغيير المُلائم عنها بأمانة في لُغَة المُترجم. 
 
* ما هو أوّل كتاب قمتَ بترجمته، وما هي دواعي ذلك؟
- في الواقع هما كتابان ترجمتهما عام 1957: الأوّل بعنوان السّفر بين الكواكب، وهو كتاب علمي عن رحلات الفضاء ومستقبل الإنسانية، وذلك لاطّلاع العالم العربي على الجهود العلمية لغزو الفضاء والمقارنة مع حالته آنذاك. والثاني بعنوان بافلوف حياته وأعماله، ويعبّر عن اهتمامي بهذا العالم العظيم ورغبتي في أن يكون موضوع أطروحة لي. 
 
* هل أسهمت الترجمة في إغناء المكتبة العربية برأيك؟ وكيف؟
- نعم. من حيث عدد الكتب، على الرغم من تدنّي خاصّية الفضول المعرفي. المفروض أنّ الترجمة التماس أو اقتناص معارف، ومعلومات يحتاجها المُجتمع لاستجابة حاجة مُكمّلة وضرورية. لكن حيث المجتمع فقير في إنتاجه المعرفي والعلمي، فإن التجربة تكون عمل شكلي ومظهري، أو تقتصر على أعمال أدبية من روايات وقصص وما شابه. والمُترجَم الحديث في العالم العربي غير مُثمِر ويُمثِّل فائضاً عن الحاجة وزيادة. واقع الحال هو ترجمة عن أعمال أدبية، وليس عن أعمال تستلزمُ تطوير المجتمع. 
 
* هناك إقبال كبير اليوم على الكتاب الإلكتروني، فهل يمكن أن يقضي هذا الأخير على الكتاب الورقي؟
- المُلاحَظ أنّه حتى أطفال اليوم يفضلون التعامل والقراءة عبر الحاسوب والشاشات الذكية، من دون الكُتُب الورقية، والأمر متروك للمستقبل. 
 
* ما أهمّ وأبرز ما نِلْتَ من الجوائز برأيك؟ 
- لستُ مِمَن يطمحون في الجوائز، ولا أراها معيار عدل، ولكن هناك جهات عدة منحتنا دروعها أو جوائز مثل مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، والمجلس الأعلى للثقافة في مصر وغيرها وهذا طبيعي والحمد لله، فأنا أَبُ عصر الثقافة الموسوعية، والمُثقَف الموسوعي.
 
* كيف تنظر إلى مستقبل الثقافة العربية؟
- الثقافة العربية تعاني من هزيمة وركود، وتختلف على مدى قرون، والأمل رهن نهضة علمية وإنتاج علمي، ومشاركة إيجابية، ضمن الشبكة العالمية لإنتاج العلم والمعرفة، والتكنولوجيا وعلمانية النُّظُم الحاكمة. الثقافة العربية هي امتداد لثقافة سكسونية (استاتيكية) لمجتمعات سكونية على مدى قرون، مجتمعات تعيش حياة التبعية، ومن ثم تعيش مُغترِبة في الزمان، أو تبعية للغرب ومِنْ مُغترِبِيه في المكان، وهي لم تُنتِج علماً أو فكراً أو ثقافة منذ القرن الرابع عشر. العالم العربي بحاجة إلى ثورة تحديث اجتماعي، وثقافة تعزيز مفاهيم التطوير والتغيير والارتقاء، ولكننا نعيش أسرى جمود ثقافي اغتالَ العقل العربي الحضاري الذي أنتج الحضارة العربية الإسلامية. نحن نعيش تناقضاً صارخاً بين ثقافة العصور الوسطى التي تعشش في رؤوسنا وبين التعامل بأدوات حضارةِ عصرٍ جديد، عصر العلم والتكنولوجيا، ولهذا فإننا نعيش على نتاجات القوى العالمية المُنتجة للحضارة بما هيَ إبداع علمي تقنيّ قرينَ إطارٍ فكري، ونجترُّ رطانة بأننا أصحاب حضارة سرقها الغرب، والحقيقة أننا نعيش مفلسين ثقافياً وحضارياً. 
*(كاتب من المغرب)