ريلكه العصيّ على التجنيس

ثقافة 2022/06/03
...

 ترجمة: نورالدين الغطاس 
ريلكه، الشاعر النمساوي الكبير، كتب رواية وحيدة وغريبة إلى حد ما، ضمت واحدا وسبعين نصاً سردياً، أو كما قال ريلكه عنها (أوراق مبعثرة)، رغم ذلك تعد أولى الأعمال الأدبيّة الألمانيّة في سياق "الكتابة الإبداعيّة". بالفعل، النصوص تبدو غير متجانسة، لكن خيوط مواضيعها تتشابك في العمق، بين الهناك، الدنمارك، حيث الطفولة والذكريات، والهنا، باريس، حيث قساوة الواقع. الشاب الدنماركي "مالته" الذي نزح إلى باريس في بداية القرن العشرين، باحثاً عن مناخ جديد لأعماله الأدبيّة، وجد ضالته بين الكتب في المكتبة الوطنيّة، بين الحنين والعزلة. 
نُشرت الرواية عام 1910 تحت عنوان "مذكِّرات الشاب مالتُه لوْريدس بريغه"، كلمة "مذكرات" لا تنطبق مئة بالمئة على النصوص.  في الأساس، تتمحور النصوص حول ثلاث نقاط مختلفة: 
•  أولاً، تجارب الطفولة والشباب للسارد "مالته" في الدنمارك.
•  ثانياً، التجارب في باريس آنذاك. 
• وثالثًا، تأملات حول الأحداث ووقائع الراوي المُغترب.
الراوي الذي وصل إلى باريس تاركاً وراءه كل شيء، لا يملك سوى حواسه، تأملاته لما حوله، عالم غريب عليه، قد يبدو حيّاً، لكنّه في الجوهر ميّت (حسنًا، حسنًا، يأتي الناس إلى هنا للحياة، أعتقد أكثر أن الموت يحيا هنا). الشاب "مالته" الذي كان يتوخى حياة جديدة بمعانٍ جديدة في الحاضرة باريس، يتجوّل في شوارعها المُخيفة، يرى طفلاً صغيراً ينام في عربة، يستنشق كل الروائح المختلفة والكريهة، رائحة الفقر والبؤس والخوف، لتصل في الأخير إلى منزلهم (الأم تشم الرائحة، [...]، علينا أن نلتزم الهدوء، فهي تشم بأذنيها). يعود "مالته" إلى حجرته الصغيرة بشارع "تُوليير"، يجلس على مكتبه ويكتب انطباعاته بإلحاح عاطفي كبير، خصوصاً خوفه من فقدان الذات، حتى يصبح الموت بالنسبة له مجرد رابط بين الحياة وحالة أخرى متعالية، يكتبُ: (في المستشفيات يموت الناس من أجل لقمة العيش، إذا جاز التعبير. لكن لا يمكن لأي شخص اختيار الموت المناسب والبهي مثل الأغنياء. على الفقراء أن يقبلوا الموت الموجود هناك، حتى لو لم يكن ذلك مناسباً لهم في بعض الأحيان).
عندما يعود الشاب "مالته" بذاكرته إلى مسقط رأسه بالدنمارك، يستحضر الكثير من الأشياء، خصوصاً الاحتفالات العائلية، لكن الموت يستحوذ من جديد على ذكرياته، موت الأقارب واحداً تلو الآخر، يتذكّر أخر أمنية لوالده وهو يحتضر، أن تخترق إبرة قلبه للتأكد من دفنه ميتاً. يصل الموت إلى أمه، يستنتج في الأخير أن الموت بصمة شخصية لكل فرد، جزء لا يتجزأ من ذاته:
"يا رب، أعطِ كل واحد موته الخاص.
الموت الذي ينبثق من تلك الحياة،
حيث الحبّ، المعنى والحاجة.
نحن مجرّد قشرة وربما ورقة.
الموت العظيم الذي يحمله كل شخص بداخله،
ما هو سوى تلك الفاكهة
التي يتمحور حولها كل شيء".
أجد ريلكه في هذه النصوص فيلسوفاً صوفياً، شاعراً وكاهناً في الوقت نفسه، منعكف في التأملات والعبادة، أليس هو الذي تأثر 
بـ "نوڤاليس" القائل: (في البداية كان الشاعر والكاهن واحداً، فقط مع مرور الزمن افترقا. الشاعر الحقيقي يبقى دائماً كاهناً، كما أن الكاهن الحقيقي يبقى شاعراً. ألا يجب على المستقبل إعادة بناء الوضع القديم مرّة أخرى!؟).
بطريقة شبه غريبة، يفسّر الراوي صراعاته الداخليَّة، ويُعيد بناء الطريق إلى الربِّ، وإلى نفسه، وإلى الحبِّ، وأخيراً طريق العودة إلى الماضي الذي قد يبدو أنّه المستقبل (المُغترب يعود إلى وطنه، لا نعرف بالضبط هل مكث هناك، ما نعرفه أنّه عاد). كتب ريلكه هذه النصوص بلغة شعرية محضة، غير سهلة الفهم والهضم على حدّ سواء، جمل قصيرة، مكثّفة، متباعدة ووصفيَّة، صور مزاجيَّة، أسلوب سابق لعصره، من يعشق عالم ريلكه، يعرف قيمة ذلك. رغم وجود مؤشرات واضحة رفض ريلكه تصنيف روايته في سياق السيرة الذاتيَّة، من بين النصوص التي وقفتُ عندها متأملاً بشكل قوي، هذا المقطع الذي ما زال يتردّد بداخلي:
"أنا أتعلّم النظر، لا أعرف سبب ذلك، كل شيء يتعمّق في داخلي ولا يتوقف عند النقطة التي كان من الواجب الانتهاء عندها. لديّ شيء بداخلي لم أكن أعرفه. كل شيء يتجّه إليه الآن. لا أدري ماذا يحدث هناك.
هل قلتُ ذلك بالفعل؟ أنا أتعلّم النظر، نعم، سأبدأ. لا أبالي بالأمور السيّئة، أريد أن أستغلّ وقتي فقط. على سبيل المثال، لم أدرك أبدًا عدد الوجوه حولي، هناك الكثير من الأشخاص، لكن لكل شخص العديد من الوجوه، هناك أشخاص يرتدون وجهًا لسنوات، بالطبع يتآكل هذا الوجه، يتسّخ، تتشقّق تجاعيده، يتمدّد مثل القفازات التي تمّ ارتداؤها في رحلة، هؤلاء أناس بسطاء، فقراء، لا يستطيعون تغييره، عاجزون حتى على تنظيفه، يزعمون أن هذا أمر مناسب بما يكفي، يا للحسرة، من يستطيع إثبات خطأهم؟
السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا يصنعون بكل هذه الوجوه العديدة؟ إنهم يحتفظون بها، يرثها أطفالهم الّذين يرتدونها، قد يحدث أيضًا أن كلابهم ترتديها في العلن - لما لا؟ هل الوجه هو الوجه؟ آخرون يرتدون وجوههم بسرعة، واحداً تلو الآخر، ويتخلّون عنها بنفس السرعة المذهلة. يبدو لهم في البداية أن الوجوه أبدية، رغم أنهم ما زالوا في الأربعين؛ ربما هذا آخر ما في وسعهم القيام به، بالطبع، مأساتهم. آه، لم يعتادوا على العناية بالوجوه، آخرها ينقضي خلال ثمانية أيام، به ثقوب، هشّ كالورق، شيئًا فشيئًا يظهر ما في الخلف: "اللَّا وجه" الذي يتجوّلون به".
 
(كاتب مغربي في ألمانيا)