العيادة الفلسفيَّة للتعايش مع الموت

ثقافة 2022/06/03
...

 أوس حسن
يرى نيتشه أنَّ الفيلسوف الحقيقي هو طبيب الحضارة، فطالما كانت هناك قيم تتصدع وتتهاوى لتبشر بانهيار الحضارة أو أي أمة من الأمم، فنحن إذن بحاجةٍ ماسة إلى الفلاسفة. إن الأوبئة والأمراض تضعنا أيضاً في مواجهة حقيقيَّة مع كينونتنا ومع الأسئلة الأخلاقيَّة الكبرى، لنعود ثانية إلى تلك النقطة المفصليَّة، النقطة التي نحتاج فيها إلى حل واضح، وهو الفيلسوف!
وفي هذه الأجواء المربكة تعود الفلسفة بقوة إلى واجهة الحياة لتساعدنا على مواجهة الأزمات اليومية، وتقدّم الحلول التي ترتّق الانقطاعات التي تشوّه نسيج 
الحياة!  فالفلسفة هي طبُّ العقول وهي من يخلصها من الأوهام، والأخطاء السائدة في نمط التفكير.
كان سقراط يبشّرُ بأفول أثينا نتيجة الحروب، وكذلك بسبب تفشي وباء الطاعون المميت الذي فتك بالكثير من الأرواح، لكنّه لم يتوقف عن طرح الأسئلة والمحاججة لتوليد الحقيقة ولتحسين رؤيا البشر إلى العالم.
وكذلك في القرن السادس عشر عاد وباء الطاعون ليتفشى، لكنّنا نرى أنَّ الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتاني رغم فقدانه لأعزّ أصدقائه نتيجة الطاعون الذي فتك بنصف سكان مدينة بوردو، إلّا إنّه لم يستسلم للحزن وطاقته التدميريَّة، تلك التي يسميها سبينوزا الأهواء الحزينة، وتدخل من ضمنها انفعالات الخوف جميعاً والغضب والكراهيَّة.
لكن دي مونتاني ارتقى سلّم العزلة، لينتج لنا الكثير من مقالاته الرائعة التي تعلمنا مفهوم الحياة كفنٍ وإبداعٍ حتى في أدقِّ التفاصيل اليوميَّة وفي أكثر الأشياء بساطة.
ومع جائحة كورونا عادت الفلسفة الرواقية بقوّة وهي مليئة بحمولات نفسيّة تساعد الإنسان في تحسين نظرته إلى العالم وإلى الأشياء من حوله، فالرواقية هي فنّ التصالح مع الحياة والموت على حد سواء، فما يسبب لنا شقاء وبؤسا هو حكمنا على الأشياء، وليست الأشياء نفسها، وكذلك مفهومنا عن الموت الذي صنعته العادة البشرية المتوارثة بوصفه أمراً فظيعاً ومروعاً، من دون أن نعلم أنّ الموت هو عبارة عن تبدلاتٍ جديدةٍ في العناصر تخضع لقوانين الطبيعة، التي يجب أن يعمل بمقتضاها العقل 
البشري.
الوعي بالموت
يقول فيلسوف اللذة أبيقور "لا يعنينا الموت في شيء.. يوجد فلا نوجد، ونوجد فلا يوجد".. لكن قبل كلّ شيء علينا أن نؤنسن الموت كحقيقة تدخل في نظامنا الوجودي، وهذا لا يأتي إلّا من الوعي العميق بالموت، فنحن نظنّ أنّ الموت بعيدٌ عنّا، لكنّه يحيط بنا في كلّ اتجاه، ويدخل في أدقّ تفاصيل حياتنا اليوميَّة، وعندما يباغتنا بفقدان أحد الأحبّة أو المقربين منّا؛ يحدث لنا ما يسمى بصدمة الوعي، وهذه الصدمة تتحرّك وتتصارع في اتجاهين مختلفين، ويكون الحزن هو مركز هذه الحركة المتصارعة، فإمّا أن يجرفنا الحزن بطريقةٍ مفرطةٍ نحو الماضي عندما يقوم الذهن باستحضار الصور بطريقة تتأثّر بها الحواس حينما تندمج الذات مع الشخص الميت، فلا تفرّق بين الصورة المستحضرة والذات، وهذا الحزن هو عاطفة سلبية تمنع الجسد من القيام بالعمل وتعيق حركته وحركة الفكر أيضاً، وهناك الحزن الذي يهدمنا ويعيد تشكيل ذواتنا من جديد، بعدما تتحول صورة الشخص المفقود في داخلنا إلى صورة ضبابيَّة باهتة لكنّها لا تخلو من الحنين والمحبّة المتسامية، وهذا الحزن هو عاطفة ايجابية تعيد تشكيل ذواتنا من جديد من خلال عمليتي الهدم والبناء، أو الخلق المتجدّد، هنا يحدث ما يسمى بعملية ارتقاء بالوعي والفكر الذي يستطيع فهم الأشياء والأحداث من حوله من دون تأثّر وانفعال، وهذا ما يساعد على تكثيف الأحاسيس وتنقيتها من شوائب العالم الخارجي، ومن كلّ ما هو ضار للطبيعة 
البشرية. 
حول الموت والحياة يقول سبينوزا في كتابه علم الأخلاق "لا ينقاد الإنسان الحرّ لفكرة الموت أو خشيته، ويظلّ بعيداً كلّ البعد عن الهواجس التي تذكره بالموت؛ 
لأن حكمته دائماً في تأمل الحياة التي يحياها". 
العزلة، وحياة لا مرئية! 
عندما يصيب وباء ما أجسادنا، يحفّزنا على الإبداع وعلى الشغف الدائم بطاقة الحياة، فالحياة لا تعاش كما نراها ونحياها، بل في تلك اللحظات الهاربة التي تتسلّل خفيّة من أعمارنا.
في العزلة تتجلى الرؤى أكثر؛ لنعيد حسابات الماضي وفي الأوهام التي قدسناها، وهذا تماماً ما يحصل مع المريض عندما تنشطر حياته إلى نصفين؛ ليرى أضواء المدينة اللامعة كما لم يرها من قبل، وحركة الغيوم السابحة في الأفق، وتعاقب الفصول والطيور التي تتوارى بعيدا في الغروب، لينصت ويستمع إلى كلّ الأصوات كما لم يستمع إليها من قبل، ثم توقظه شمس السماء الواسعة في الصباحات، كما لم توقظه من قبل، ليبصر بعيداً من النافذة.  
هذا الكم الهائل من السراب، السراب الذي منعه من حياة لم يعشها الحياة التي ظلت وحيدة ومستيقظة في الأعماق، أو في مكانٍ ما في هذا العالم!