هروب الملاك من بابل

ثقافة 2022/06/05
...

 حميد المختار
 
لم تكن بابل من غُبارٍ وعدم ولم تكن في يوم ما من أيامها الزاهرة قبضُ ريح، كانت العالم بأكمله، هناك بين نهرين وسمائين ثمة من يعيش في الأعالي كآلهة وثمة من يعيش أسفل أيضاً كآلهة، وثمة كان الطين فخّار الوجود ونهاية رحلة بابل التي ستعود في موتها إلى الطين ثانية.
ومن رحم ذلك الطين وُلدت الحروف وتكوّنت الكتابة وانبعثت (أنهيدوانا) منذ أربعة آلاف وثلاثمئة سنة في مملكة الكتابة، وكانت أول أنثى عراقيَّة وكونيَّة وَقّعَت اسمها تحت قصائدها، (أنهيدوانا) حَبَلَتْ بالعالم والسّماء والأرض والتراب والشِّعر والفلك والقوانين، لذلك صارت هي الحياة، والحياة انبثقت مِن بين شفتيها، لكن ماذا حدث لبابل وكيف عثر (بورخيس) على بقايا بابل في مكتبته المنسيَّة؟ وهل صحيح بأنه لم يكن يَقْصِد بابل المدينة في قصّته (مكتبة بابل)؟  
يُشير المترجم العراقي حسن ناصر وهو مترجم كتاب (سداسيات بابل لبورخيس) إلى أنّ بابل هنا هي استعارة تعني البَلْبَلة أو الفوضى من الأصوات غير المفهومة أكثر مِن كونها إحالة تعود إلى المدينة بابل، وهي كما يقول كلمة مُربكة يُمكن أن نضعها في قائمة ما يُطلق عليه (الصديقات الزائفات)، الاسم الأكدي للمدينة القديمة (باب إيلو أو باب الله) وعَبْر انتقاله الطويل على ألْسِنة البشر المُبَلبلة اُخْتُصر إلى بابل ثم صار يعني البلبلة. ثمة مدن كثيرة ملعونة في الأديان وفي النواميس السماويَّة والأرضيَّة كمدائن صالح وسدوم ومدن أخرى كثيرة، وبابل من هذه المدن الملعونة، فقد لُعنت في التوراة بسبب اضطهاد اليهود وتدمير مدينتهم وأخذهم أسرى إلى بابل قسراً، ومعروف أنّ التوراة كتَبَها الكهنة في أرض بابل خلال -السبي العظيم- بعدما تعرف اليهود على النصوص البابليَّة، ولهذا ارتبط اليهود بمدينة بابل وجوديَّاً وتاريخيَّاً ودينيَّاً..
بابل القديمة مختبئة تحت أطنان من التراب والنسيان لكنها رغم كل هذا بقيت مُحافِظة على شكلها القديم وقوانينها وإرثها الحضاري ومدنها وناسها تحت الأرض، وبقيت معهم أسرارهم مدفونة في الأعماق بحيث ظل الشعب البابلي يُمارِس حياته السريَّة بتلقائيَّة وتناغم يُشبه إلى حدٍّ بعيدٍ تراتيل وموسيقى القيثارة البابليَّة التي يُسمع عزفها على يد المُنشدين على ضفاف الفرات ومياهه العميقة الذاهبة إلى مياه الأرض الجوفيَّة لتصنع للناس حياة أخرى وللعشب لوناً أخضر ينبثق من باطن الأرض، وثمة أصوات لشعب بابل المُحْتَفِل بآلهته، ها هو ينتظر الإله (مردوخ) كبير آلهة البابليين يدخل المعبد وهم يستقبلونه بالأناشيد: “أيها السيد عندما تعود إلى ديارك فإنَّ ديارك تقول لك: السلام عليك أيها السيد لا تترك بابل مدينة فرحك غير مأهولة”، وبعد هذا النشيد ينتهي كل شيء ويعمّ الصمت جنبات بابل العظيمة وأسوارها وقصورها وسدودها وعروشها وشوارعها وحواريها ..ثمة شياطين وملائكة في بابل وقصة الملكين هاروت وماروت مذكورة في القرآن الكريم، وقد كثرت الروايات بشأن هذين الملكين، وهناك روايات تقول إنّهما حين نزلا في أرض بابل عَصَيا ربهما فغضب عليهما الرب لأنهما كانا يُعَلِّمان الناس السِّحْر، وقد خَلَطت كثيرٌ من هذه الروايات سِحر الملكين بسحر الشياطين، ولكن هل اتّبع اليهود السحر الذي أُنزل على الملكين؟ 
إنَّ أكثر الناس في بابل اتبعوا سحر الشياطين تاركين علم الأنبياء، وثمة الكثير من الروايات الإسرائيليَّة دخلت في مُعترك تحريف الوقائع والأحداث وأضافت وحذفت وقدّمت نصوصاً أخرى ليست لها علاقة بالوقائع التي ذكرتها الكتب السماويَّة حتى أصبحت هذه الوقائع ثيمةً تُغري كُتّاب الفن والأدب، فكتب “فريدريش دورينمات” مسرحيَّة (هبط الملاك في بابل) التي يرى الكاتب المصري أنيس منصور أنّها مستوحاة من القصّة التي جاءت في الكتاب المقدّس تحت عنوان (نشيد الأنشاد) وهي تتحدث عن راعية الأغنام الشابة التي رفضت أقوى مَلِكٍ في العالم وهو (الملك سليمان) حيث قالت له: “لا”، وربما أنَّ رواية دوستويفسكي (الأخوة كارامازوف) تناولت أيضاً الثيمة ذاتها، وكذلك رواية اللؤلؤة (لجون شتاينبك).
وبعد كل هذا ماذا بقي مِن بابل في مكتبة بورخيس أو ذهن دورينمات أو فكر الآثاري هاري ساكز مؤلف كتاب “البابليون”؟! وكيف استطاع بليافسكي كشف أسرار بابل في كِتابه المهم أسرار بابل؟، ستكون الإجابة عند جلجامش وهو في غابة الأرز يقف متحدياً (خمبابا) وباكياً على خلّه وصديقه انكيدو، (فيهلك الرجل وهو محزون القلب/ ها أنا ذا انظر فوق الأسوار/ فأرى الجثث تطفو على النهر/ وأنا سيحل بي حقا المصير نفسه)، وكأن جلجامش يرى بعين النبوءة ماذا سيحدث لبابل، فامتدَّ الخراب ليشمل قصر الملك البابلي (نبوخذ نصر) وبقايا برج بابل وخندق الأُسود والثور المجنّح وقد اِبتَلعت الأرض هذه البقايا وتحولت الجنائن المعلّقة إلى جَنائِز معلّقة ومُخَوْزَقة واختفت بابل من غير أنْ يَشعُر بها أحد على وجه الأرض، ولكن بقيت عيونها تُرعب الشعوب المجاورة لها فضلاً عن اليهود الذين نقلوا للبشرية تصوراً عن بابل كونها أنموذجاً ورمزاً للكائن الحي المتعفّن. نعم لم تَعُد بابل موجودة الآن إلا أنّ كلمة -بابل والبلبلة البابلية وبابل الزانية والساحرة- ما زالت تدور على أَلْسنة الناس واستمرت لأكثر من ثلاثة آلاف سنة وما بقي منها دمرته حروب الحضارات الجديدة وحداثاتها وتكنولوجياتها وسَرَق ما نجا منها لصوصٌ عالميّون وتُجار آثار وبشر وأسلحة، ولم يبقَ إلا لوح طيني أَوْصَل رسالته لنا جميعاً: نحن غبار وعدم / كل ما نفعله ليس سوى قبض ريح .. إنَّ موت الحضارات الغنيَّة بتراثها الفكري والإنساني سَيَعني العودة إلى الطين ثانية، ومِن هناك ربما سيظهر ما تخبّئُه أرض بابل من جديد.