الخيال المناخي.. سرد الأزمنة المقبلة

ثقافة 2022/06/05
...

 ميرا يوسف 
 
تردّدُ جدَّتي دوماً وبنبرة واثقة مطمئنة آمرة: إنّ نباتات الزينة كالأطفال الرضّع تحتاج إلى رعاية مضاعفة وعطف حقيقي وحنو ومحبّة، وإذا لم تعاملها هكذا فإنَّك ستقتلها لا محالة، عاملها بدفء وإلّا تموت في صقيع الإهمال والنسيان!
جدّتي تعشق هذه النباتات، بل يمكن أن أقول إنها تدمنها إذ لا يمكن أن تعيش في مكان أو بيت لا نباتات فيه، لكن في سنواتها الأخيرة، كانت تشعر بعدم قدرتها على رعاية أطفالها «النباتات» فبدت الأخيرة وكأنّها تحتضر وتذوي معها يوماً بعد آخر ثمّ سرعان ما غابت رائحتها من البيت عندما غابت رائحة جدّتي إلى الأبد!  قد تكون مسألة رعاية نباتات الزينة داخل المنزل مهمة تدريجيّة، ذات طبيعة طبقيّة تحتاج مواجهة وتتطلب احتياطيات وتفاصيل وجهودا.. لكنني أتساءل الآن عن مدى الإدراك في أنَّ الأشياء التي فعلتها ذات مرة بسهولة من دون تفكير- كشراء نباتات الزينة، والاهتمام بها - تتطلب فيما بعد جهداً، مع تداعيات تدوم طويلاً في مزاج من عاش معها ومن تعلّم وتأثر بها!.
واليوم، وكلّما قرأت شيئاً من كتب “الخيال المناخي” الذي يتناول موضوعات التغيرات الهائلة في مناخ الأرض، وخاصّة ظاهرة الاحتباس الحراري وآثارهما المدمرة على حياة البشر تذكّرت الجهود الكبيرة التي كانت تبذلها جدّتي مع نباتات الزينة، وكيف كانت تظن أنَّ وجودها في البيت من شروط بقاء (الودّ) الغامر و(الألفة) الباذخة بين أفراد الأسرة وأنّها تدفع - فضلاً عمّا تطرحه من أوكسجين وتمتصّه من ثاني أوكسيد الكاربون- تدفع الطاقات السلبية والمشكلات التي قد تُسهم في انهيار الأسرة!
كتب الخيال المناخي بدت بعيدة في البداية عن هذا الاسترجاع الذاتي والتداعي الجميل الذي أسرني، وربّما يعود ذلك إلى أمر بسيط هو وحشية وقسوة ما يطرح داخلها من قصص وروايات عن نهاية العالم، مما لا يتلاءم مع ذكرياتي الناعمة عن تلك النباتات الخضراء الوديعة، أو ربما لأنّ حدودها الخيالية كانت لا تقترب من الوقائع التي نعيشها سابقاً، لكنها اليوم تفسّر لنا ما يحدث من حولنا، وتذكرنا بالجوانب التي تتقارب بطرق غريبة ومرعبة ومربكة لما فعله الإنسان تجاه المناخ اليوم فأجدها واقعية جداً، وتتصل مع ذاكرتي بخيوط متينة. وقد يبدو من غير المعقول مقارنة نباتات جدّتي وهاجسها الأنيق بالاعتناء بها بكتب الخيال المناخي ومقصدياتها الكثيرة، لكن المنطلقات المشتركة توحّد الفكرة في النهاية، نبدأ من نباتات زينة لا تجد من يرعاها لنصل إلى مناخ وغابات وبحار وصحارى مهملة جارٍ عليها الإنسان وخرّب أسسها وحيزها الحيوي، وتركها تلتهم الأخضر في حياته لتحوله إلى فيافي قاحلة.إنَّ الخيال الشاسع في هذا الأدب وتأويل رموزه يشكلان سلسلة لا نهاية لها من التوقعات والرؤى التي يكتنزها المتلقي وتقرّ في وعيه، ومن ثمّ يجد نفسه في صدمة ودهشة لا لكونها تشابه ما يحدث في العالم الآن، بل لأنّ هناك نقطة مركزية لجذب نظريات المؤامرة التي يقول بها كلّ من يجد نفسه بعيداً عن هذا الأدب.. في تلقيه وفي تقبّل الأفكار الواقعية التي تؤسّس لمعالجات جديّة حول هذه المشكلات التي تتفاقم لحظة بعد أخرى ملوّحة إلى نهايات مرعبة تضارع ما يطرح في هذه الكتب.  إنّ وظيفة الكاتب الحقيقي هي أن يعكس الراهن واليومي في مرايا أدبه، لأنّ الكتابة حتى وإن كانت من الخيال المحض، هي في صورة من صورها نتاج مراحل حياتية، لأن أصل الكتابة ينطلق من مشكلة تمتّ بصلة للواقع حتى وأن كانت تلك الصلة افتراضية، بمعنى أن تجاوز كتاب الخيال المناخي حدود الواقع وجعلنا نعيش الفيضانات والأعاصير الغبارية والانهيارات الثلجية وغيرها من الكوارث المروعة التي تطرح ذلك الخليط من الأفكار والشخصيات: تتجاوز الفرضيات والاستنتاجات والثرثرات اليومية، لأنّ العلم يتغير ويتطور، ولكن الرواية ستُكتب وتُطبع وتبقى متوقفة في زمن ما.. ولحظة ما.فمع تفاقم أزمة المناخ تتزايد الكتابة عن تغيراته المخيفة والمدمرة خاصة الاحتباس الحراري والانقراض المحتمل لأجناس معينة ربما من ضمنها الإنسان، الذي يجد دائما فرصة لعودته إلى الحياة، لكنه هذه المرة وكما تفترض بعض سرديات هذه الكتب قد يتلاشى إلى الأبد.
إنّ كتب الخيال المناخي والخيال العلمي كانت تشكّل لفترة طويلة مجالًا رحباً لما يمكن أن نسميه (قوّة الخيال) فروايات مثل العودة إلى الأرض، عالم الفيضان، ذاكرة المياه، وغيرها كثير شكّلت أرضية راسخة لهذا الجنس الأدبي المتميز والجذّاب الذي يجبرنا على تأمل الحد الفاصل بين العلم المجرّد.. والخيال الأدبي.  ففيها- أي هذه الروايا- الكثير من الامكانات التي تسهم في توضيح المعنى الرائع لمقولة: (كلّ ما يدفعنا لفهم مناخ لم نتمكن من فهمه عبر الدراسات العلمية). 
إنّ الخيال المناخي حقل يدعو للتأمل، تأمل قوة خيال الإنسان وقدرته الاستشرافية التي تدفعه إلى سبر أغوار المجاهيل ومعرفة أطرافها النائية بدقّة غريبة.